3666 144 055
[email protected]
من المعلوم بمكان أن هناك أربع وظائف للمال: الانفاق على الاستهلاك، والادخار، والاستثمار، والتبرعات، والوظيفة الأخيرة هي ما يصطلح له بالاقتصاد الاجتماعي (التضامني) وهي سبب مؤكد في النماء والازدهار لوظائف المال الثلاثة الأخرى، ويدرك ذلك المكانة العالية أهل النفوس السخية التي أدمنت على البذل والعطاء لتتصدى في تقليل أضرار الجوائح والتي جبلت على عشق النفع للآخرين وتتعهد دوما بتزكية وتطهير ذاتها بالإقدام على إهلاك جزء من مالها في مجالات الخير الواسعة والمتنوعة لتبقى لهم صدقة جارية، وذلك ليقينهم أنها تجلب لهم السرور الدائم والبركات الدنيوية ومضاعفة الأجور الأخروية، وعلى قدر هذا التضامن نستطيع أن نقيس أثر الاقتصاد الاجتماعي وتأثيره بنتيجته العميقة لدى الأشد حاجة بل يتوسع ليصبح حاضنة لمبادرات التنمية الاجتماعية، وليس محصورا في وقت الأزمات والجوائح، فحجم الاقتصاد الاجتماعي ونطاقه يدهش أهل الإحصاء والاقتصاد، بل هو أوسع من نطاق المؤسسات الاقتصادية التي غايتها الربح الصرف، التي غالبا ما يهتز تشغيلها وقت الأزمات والجوائح والكوارث، فتتبخر أرباحها وتتآكل أصولها، كان الأولى للمؤسسات الاقتصادية أن يكون لها سلفا اجتماعيا تتكيء عليه فيقيل عثراتها الاقتصادية، برصيد إعتادت على دفعه من أرباحها السنوية للمسئولية الاجتماعية يكون وجهته للمنظمات غير الربحية ذات السمعة الموثوقة، ليكون أيضا معيارا تستحق الدعم الحكومي أثناء تعثرها، فالثقة المجتمعية أحد المعايير التي تقف خلف نجاح خدمات الشركات التجارية بل تساندها وقت الهزات، ومن ذكاء بعض الشركات التجارية لتحقيق الاستدامة (ذكاء محمود)، تضع في هيكلها مساهمات اجتماعية سنويا باسمها ويثبت في ميزانيات المنظمات غير الربحية كجهة مانحة باعتبار أن المنظمات غير الربحية هي الوجهة الموثوقة رسميا لاستقبال مخزون وتمويل الاقتصاد الاجتماعي (التضامني)، وليس الاكتفاء بمجرد ما يثبت في سجلات وهياكل الشركات التجارية نفسها، لأنه لا تؤمن على بعض هذه السجلات من التضليل والتلاعب بالأرقام من أجل تحسين سمعتها لتحقيق مآربها، وبهذا التكامل تستمر تشغيل الدورة الاقتصادية متجاوزة بذلك التحديات والعقبات التي قد تودي بها إلى مسرح الإفلاس وخروجها من السوق والاعمال إن لم تستحوذها أخرى متينة اقتصاديا وجدت في استحواذها تعظيما لأرباحها.
كما أن نظر الشركات إلى الفئة المحركة لعجلة التشغيل وهي الطبقة المستهلكة والتي تسمى (الطبقة الوسطى)، فلا غرابة أن تأتي في قائمة استهداف استراتيجياتها، إذ هي الفئة من المجتمع التي يُشترى طلبها ويؤخذ في عين الاعتبار لأهميته في نمو عرض خطوط إنتاج المصانع والمتاجر، لهذا توجه لها المصارف أنواع التسهيلات والقروض لإشباع احتياجاتها ورغباتها، فلو أُثقل كاهل تلك الطبقة، كمن يشتغل بدون مقابل مما يضعف انتاجيتها! حتما ستتضرر وتنهار سلاسل الامداد وسيفَقْد الكثير من عمال المصانع والمتاجر وظائفهم بشكل مؤقت بتأخر دفع مسيراتهم أو بشكل دائم بالتسريح، ربما يكون أول من يخرج من السوق ويكون ضحية الإفلاس تلك الشركات التي لم تضع في هياكلها التنظيمية حيزا للمسئولية الاجتماعية، ولم تستهدفها اطلاقا في استراتيجياتها، على الرغم من انتفاخ أرباحها كانتفاخ البالونة، وسيظل الهيكل الاقتصادي مشوه منتفخ من جهتين محترق في الوسط.
ونحن جزء من القرية الكونية، وقد كشفت الجوائح والكوارث في غير موطن وزمن عن حجم الفراغ الذي أحدثته الشركات المفلسة، وكانت الفاتورة الاجتماعية مكلفة جراء ذلك الإفلاس الاقتصادي، وفي هذه الحالة الأنظار تتجه للمنظمات غير الربحية الفاعلة، إذ هي الوجهة السليمة لمبادرات التطوع التي يتجه إليها المجتمع في توظيف تبرعاته المالية والبدنية، فمنطقيا من المأمول لهذه المنظمات غير الربحية أن تسد ذلك الفراغ وتكون عند حسن ظن المسندين لها الخدمات، وتنال رضا المستفيدين من خدماتها، عندها يكون حضورها أكثر فاعلية في مختلف المجالات التي احتاجها المجتمع، ويظهر الأثر بوضوح في ظل ظروف الجوائح والكوارث، وعادة تسند لها خدمات مجتمعية غالبا ما تكون خدمات إنسانية كالصحة والتعليم والسكن وشبكات الأمان الاجتماعي للفئات الهشة والمتضررة.
وليس هذا مستحيل أو ضرب من ضروب الخوارق، فمحله في صدر تاريخ الإسلام، إذ كان الاقتصاد الاجتماعي يلعب دورا عظيما منذ بداية نشأته، حينما كان يعتمد بشكل كبير على المتطوعين وراغبي الأجر الأخروي في احتضان المتضررين ومواساتهم، وله أروع النماذج ومن ذلك حينما كان يتصدق بعض الصحابة بماله كله كأبي بكر أو بنصف ماله كعمر بن الخطاب أو بتجهيز جيش المسلمين كعثمان ثم ظهرت بعد ذلك المنظمات غير الربحية في صورة منظمة أكثر ووصلت لحد اكتفاء المجتمع المسلم حتى وصلت لدرجة أن الصدقة لا تجد من تذهب إليه من أفراد المجتمع بسبب الاكتفاء المجتمعي الذي حققته السياسات الحصيفة للأعمال غير الربحية.
وامتداد لهذا التاريخ المشرف فقد نجحت إدارة مؤسسات معاصرة غير ربحية بتحقيق أهدافها، أرفع لهم التحية كمؤسسة الملك خالد الخيرية ومؤسسة العنود الخيرية ومؤسسة الراجحي الخيرية ومؤسسة عبدالله السبيعي الخيرية وغيرها…، وأشرت لها هنا بسبب ما استفاض من ذكرها وصيتها المجتمعي ونالت ثقة الدولة في اعتماد بياناتها التي ترد في تقاريرها، ما هو إلا دليل قاطع على ريادتها في مجالاتها ونطاقها، وهذه المؤسسات غير الربحية جديرة أن تقود مجتمعة مجلس إدارة القطاع غير الربحي، ويبقى دور الحكومة تشريعي لتسهيل الأنظمة فقط، حيث لا يزال نمو القطاع غير الربحي غير منافس كيفاً ونوعا وإن نمى كما، على الرغم من تمكينه نظاما.
وفي جس نبض المجتمع فقد رأينا سرعة الاستجابة الوطنية لنداء منصتي احسان وفرجت التي هدفت إلى مشاركة الجهود الوطنية في مواجهة الأزمات والمساهمة في توجيه الجهود المقدمة لأحوج المجالات: فالأولى في نطاق الإسكان والثانية في نطاق متعسري الديون، بطريقة سهلة، هي الأخرى رسالة مفادها أن الوطن يمتلك اقتصاد اجتماعي مدهش ومتدفق، نابع من إيمان وعقيدة أهله السمحة، فتبرعاتُنا تُسلم لمؤسساتنا.
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734