الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في زحمة الحياة المعاصرة، يقف الموظف كل صباح أمام مرآته، يرتّب ملامحه المتعبة، ويرتدي قناع النشاط، ثم ينطلق إلى عمله في سباقٍ لا يبدو له خط نهاية. يتكرّر المشهد يومًا بعد يوم، دون أن يشعر أنه يحرّك شيئًا سوى قدميه، فيما يشبه المشي على السير الكهربائي ؛ يركض بأقصى طاقته، لكنه لا يغادر مكانه. هذه هي دوّامة الدوام، التي تبتلع الطموح، وتستنزف الطاقات، وتترك خلفها إنسانًا منهكًا يبحث عن معنى في تكرارٍ لا يتغير.
كثير من الموظفين يعيشون ما يُشبه “عجلة الهامستر”، يبدأون يومهم بمهام غير منتهية، ينجزون منها ما يستطيعون، فقط ليجدوا في الغد مهامًا مضاعفة بانتظارهم، وتوقّعات أعلى. أحد الموظفين في قطاع الصناعة، يقول لي: “أعمل عشر ساعات يوميًا، وحين أعود للمنزل أشعر أني لم أُنجز شيئًا، لأن رسائل البريد الالكتروني ومحادثات الوتس أب بالعمل لا تتوقف، والمتطلبات لا تنتهي.” هذا الشعور المزمن بالركض بلا جدوى هو ما وصفه الكاتب الأمريكي -ليز بروان- حين قال: “ليست المأساة في أن تموت قبل أن تحقق أحلامك، بل في أن تموت يوميًا وأنت تحاول دون جدوى.”
الضياع في هذه الدوّامة ليس نتيجة الكسل، بل نتيجة غياب الوضوح، وانعدام التوازن بين الحياة والعمل. كثير من المؤسسات تُحمّل الموظف أكثر من طاقته، وتُطالبه بالإبداع وهي أساساً بيئة تقليدية. ولأن “مازاد عن حده ينقلب ضده”، فإن الإفراط في الضغط يولد التبلد، ويقتل الحافز. يقول أحد موظفي المبيعات: “كلما أنجزت شيئًا من مستهدفاتي، زادوا علي الهدف، فشعرت أن التقدير يتلاشى، والمطلوب يبتعد عني، وكأن لا نهاية لهذا الطريق.”
في بيئة العمل، تُقاس الكفاءة أحيانًا بعدد المهام المنجزة، لا بجودتها أو أثرها. وهو ما أشار إليه عالم الإدارة بيتر دراكر بقوله: “ليس هناك ما هو أفشل من الكفاءة بعمل ما لا يجب إنجازه أصلاً.”
في مجتمعنا الوظيفي، كثيرًا ما نسمع المثل: “الدوام لله”، يُقال حين يتغيّر الناس أو الظروف، لكنه هنا يُستعار بشكل ساخر ليعبّر عن دوام لا ينتهي، ولا يُفضي إلى هجاد أو راحة.
هل الحل في الاستقالة؟ لا. بل في إعادة تعريف النجاح، وفي تبنّي مبدأ “العمل الذكي لا الشاق”. يقول ستيفن كوفي: “الناس الفاعلون لا يعملون أكثر، بل يعملون بأولوية ووضوح.”
ومن هنا، على الموظف أن يسأل نفسه: هل ما أفعله يُقربني من أهدافي؟ هل ما أنجزه يصنع فرقاً أم فقط يرضي الادارة؟ هل أقضي وقتي في ما أُجيده، أم في ما يُطلب مني؟ وغيرها من الأسئلة الوجودية الأخرى.
في الختام، دوّامة الدوام ليست شيئًا خارجيًا يتحرك وحده، بل نتيجة طبيعية حين نتجاهل صوت الإنسان بداخلنا. هي صرخة هذا العصر، تُنذر بأننا فقدنا الاتجاه، وأن العمل بدأ يطغى على الحياة. ولهذا، نحتاج إلى وعي فردي ومؤسسي يُعيد التوازن، ويضع الإنسان في قلب المعادلة من جديد، حتى لا نبقى عالقين في دوران لا ينتهي، وحتى نستعيد المعنى الحقيقي بين الإنجاز والراحة، وبين العمل والحياة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال