الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
AbdullahHabter@
يقول الفيلسوف الفرنسي جان بودريار ” أننا نخلق وهما من الحقيقة يحل محل الواقع” ، سنجد أن هذه المقولة تنطبق على حدث مهم في واقعنا اليوم.
لا يكاد يمضي يوما دون أن يتداول الناس فيه موضوعا مهما ، سواء كان ذلك في مجالسهم أو في وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، ورغم أن هذا الموضوع صرف عليه من الوقت لمناقشته وطرحه، بل يكاد الحبر الذي خط به لأجله يفوق ذلك الموضوع أهمية نظرا للسهولة التي تكمن في معالجته ، ما يجعلنا لا نلقي له بالا أو أن يكون مصدر قلق لنا وللأجيال من بعدنا لسنين عديدة، ولكن تراكمات الماضي أبت إلا أن تكون بيننا مُرغِمة كل واحد أن يتجرع ويلات ذلك يوما ما.
لقد كُتِبَ في هذا الموضوع مقالات كثيرة ما بين ناقد لما آلت إليه الأوضاع والأسعار، وآخر يلقي باللوم على المتسبب في ذلك، وآخر يصف حلا أشبه ما يكون بتبادل المنافع بين أصحاب المصالح، حتى أصبح المعني بالحل في دوامة لا يدري إلى أين ستنتهي به.
تردت كثيرا في الكتابة حول هذا الموضوع والذي أُشبع كتابة ومناقشة ، ولكن مشاهدتي لبعض مقاطع ملتقى هشتاق السعودية الثاني ، والذي كان موضوعه – السوق العقاري إلى أين – أدى أن أخصص جزءا من وقتي لمشاهدة ما دار في الملتقى ، حتى أقف على تفاصيل القصة كاملة ، وقد تعجبت ، لبعض ما قيل فيها، حتى خُيل إلي أنني أشاهد نقاش رأسمالي يبحث في مصالح الكبار، ولا يقيم وزنا لحقوق باقي أفراد المجتمع، وحين انتهيت من مشاهدتي أعدت النظر لعنوان هذا الملتقى لأربط بين عنوانه وما دار فيه من نقاش إذ بفجوة كبيرة بينهما مما جعلني اعتقد أن موضوع هذه الملتقى حول “هموم العقاريين”.
لقد كان الملتقى متنفسا للعقاريين والمطورين لعرض همومهم وبث شكواهم وما يُعانونه في السوق العقارية من تعقيدات وبيروقراطية حسب زعمهم، وكأنهم الجانب الأضعف الذي لا يملك من أمره شيئا، فتارة يلقون باللوم في ارتفاع الأسعار على بعض الجهات الحكومية، وتارة يلقون باللائمة على أحجام الناس عن الشراء وركود السوق إلى أولئك الكتاب والصحفيين الذين ما فتئوا يكتبون ويتحدثون عن خطر تضخم أسعار العقار على الاقتصاد بشكل عام والمواطن بشكل خاص، وكأن العقاريين أنفسهم لم يكونوا سببا في ذلك ، بل إن البعض منهم نادي وطالب بابتعاد الحكومة عن العقار أو التدخل فيه، وهذا النداء الذي تنادي به الفلسفة الرأسمالية التي مارست العبث وما زالت بحرية تامة ودون حسيب أو رقيب.
إن أكثر ما أزعجني تلك المقارنات العجيبة والخاطئة بين أسعار العقار والوحدات السكنية لدينا وبين بعض الدول الخليجية مع اختلاف كبير في الفارق بيننا وبينهم، بل إن البعض في مقارناته ذهب لتلك الأبراج وأماكن الرفاهية، وكأن مجتمعنا يعيش رفاهية شبيهة برفاهية مرتادي ملاعب القولف، ومن دون شك أن تلك المقارنة ستصب في مصلحة تلك الأبراج العالية والفلل الفاخرة، وهذه المقارنة في مفارقتها أشبه بمن يقارن أجار سنة لشقة في حي قديم بغرفة في إحدى فنادق مكة الشهيرة في موسم رمضان .
ولعل بعض الاقتصاديين ممن تكلم وفصل أغفل معايير اقتصادية بالغة الأهمية يُستند إليها لعمل الدراسات والمقارنات بين الدول، وربما كانت تلك المعايير كفيلة بحجب تلك المقارنات التي ذكرت في الملتقى، وحتى يتبين خطأ ذاك، كانت المؤشرات والبيانات الاقتصادية والمتمثلة في لغة الأرقام والتي يدرك الاقتصاديين أهميتها في كشف الغموض وجعل المقارنات أكثر منطقية، هي الأكثر مصداقية والفيصل في ذلك مهما بلغت حجة المتحدث وقدرته في التفسير والتبرير، وسيتضح عدم منطقية تلك المقارنات من خلال مؤشرين اقتصاديين على درجة عالية من الأهمية، وهما متوسط نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي والتضخم لدول الخليج.
فمن خلال بيانات صندوق النقد الدولي لعام 2013 نجد أن متوسط دخل الفرد في دول الخليج – مرتبا ترتيبا تنازليا – قطر 98737 دولار، الإمارات 64779 دولار، الكويت 44584 دولار، السعودية 25162 دولار، عمان 24729 دولار، البحرين 23930 دولار، ونلاحظ مدى الفارق الكبير بين الدول الثلاث الأولى ، والثلاث الأخرى، بينما كانت معدلات التضخم – مرتبة ترتيبا تنازليا – السعودية 3.6 % ، الكويت 3.3 % ، عمان 3.3 % ، البحرين 2 % ، الإمارات 1.7 % ، ويتضح من البيانات والمؤشرات السابقة ، أن هناك فارق كبير بين متوسط دخل الفرد في السعودية وبين الدول الثلاث قطر والإمارات والكويت، في المقابل نجد أن معدل التضخم في السعودية هو الأعلى من بين دول الخليج، هل بعد ذلك تكون المقارنات في أسعار العقار منطقية. أم لا !؟ … نصيحتي لا تقوم بتحويل تلك الدولارات إلى عملتك المحلية .. ودعها كما هي.
لقد كان العقاريين أكثر تفاؤل بعودة السوق، كما تمكنوا في الوقت نفسه من بعث رسائل تدعوا للشك في قدرة وزارة الإسكان على الوفاء بما أوكل إليها من مسؤوليات ، وأن هذا الركود في السوق وقتي ، وسيعاود السوق نشاطه ، بل إن البعض جزم أن الأسعار مقبلة على الارتفاع، ولعل من تابع الملتقى كاملا يلاحظ القلق الواضح في وجوه ونبرات المتكلمين من العقاريين والمطورين، وكأنهم يريدون أن يتشبثوا بما بقي لديهم من أمل في عودة السوق لسابق عهدها، وربما سيكون ذلك سرابا قريبا.
وبالرجوع لبيانات مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات نجد عدد المساكن غير المشغولة – خالية – تقريبا 970 ألف وحدة سكنية، وبغض النظر عن تلك البيانات، لنقف قليلا على مصدر القلق الذي يخشاه العقاريين والمطورين، ولنتخيل مثلا لو قامت وزارة الإسكان بتلبية 20 ألف طلب للسكن سنويا، فهذا سيؤدي إلى وجود 20 ألف وحدة سكنية شاغرة بخلاف عدد الوحدات غير المشغول التي أصدرتها المصلحة، وهذا سيؤدي مستقبلا إلى زيادة المعروض من الوحدات السكنية وانخفاض الطلب مما يولد ضغوطا تؤدي إلى انخفاض تكاليف أجار السكن الأمر الذي سينعكس سلبا على قيمة العقار في السوق نتيجة لانخفاض ريعه وتستمر السلسة في تلبية طلبات الإسكان وزيادة المعروض وانخفاض الطلب من الوحدات السكنية وانخفاض في الأسعار بإذن الله.
ثم لنتأمل في السياسات التي اتخذتها الحكومة وفقها الله لمعالجة مشاكل الإسكان، فقد رفعت سقف القرض من 300 ألف ريال إلى 500 ألف ريال ، وقامت بإنشاء وزارة للإسكان وأصدرت أوامر بتسليم ما لدى الأمانات والبلديات من أرض قابلة للتطوير للوزارة، ومنع المنح، إضافة لأخبار تفد إلى أسماعنا بين الحين والآخر عن سياسة ستتخذ ضد تلك المساحات الكبيرة والتلويح بفرض الرسوم ليعطي دلالة واضحة عن الرغبة الأكيدة في معالجة هذا الملف الشائك والإسراع في ذلك، حتى يتيسر للمواطن الحصول على سكن مريح له ولأفراد أسرته.
وبالنظر لحداثة عمر الوزارة وما تواجهه من صعوبات من تعدد ملفات المدن واختلاف تضاريسها، وما يُشن عليها بين الحين والآخر من كتابات تشكك في قدرتها على ذلك، وما يُروج في بعض وسائل الإعلام من قبل بعض العقاريين في أن الوزارة ستفشل في خططها، إلا أنها قطعت شوطا كبيرا لا يستهان به في الحصول على أراض قابلة للتطوير، وقيامها ببناء بعض الوحدات السكنية، وهي ماضية بإذن الله في ما يحقق للمواطن سكنا مريحا يحميه من جشع السوق.
ويبقى على المواطن الجانب الأكبر في إنجاح برامج الوزارة والتحلي بالصبر وعدم الاكتراث لما يُروج له من شائعات هدفها التشكيك في سياسة الدولة وبث القلق لدى المواطن ، في أن الوزارة لن تنجح في خططها التي تسعى إليها، وأن أسعار العقار رغم الركود سترتفع مجددا.
ندرك تماما أن الأسعار الحالية للعقار مرتفعة دون مبرر وهذه حقيقة ولكننا أوهمنا أنفسنا أن الأسعار في ازدياد ولن تنخفض، والواقع أن الحلول مقبلة والأسعار ستنخفض بإذن الله ، ولكنا أبينا إلا أن نجعل من ذلك الوهم الذي اختلقناه من الحقيقة يحل محل الواقع.
لنتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال (حقا على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال