الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بدأت المصارف السعودية وشركات التمويل العقارية في تطبيق أنظمة التمويل العقاري الجديدة ابتداء من الشهر الماضي وسط مخاوف متنوعة وتردد من قبل جميع الأطراف المعنية. فهناك التخوف المتوقع نتيجة الدخول في آليات جديدة للتمويل وضعف عناصر المنظومة بشكل عام، ناهيك عن عدم اكتمال وتكامل عناصر هذه المنظومة. تشير البوادر الأولية لتطبيق الأنظمة الجديدة إلى امتعاض الراغبين في التمويل بسبب اشتراط مؤسسة النقد على ألا يزيد مبلغ التمويل على 70 في المائة من قيمة العقار، على الرغم من الارتفاع الكبير في الأسعار في الوقت الحاضر. هناك من يعتقد أن العقار سيمر بمرحلة تصحيحية فيحبذ التريث في شراء العقار، وهناك من يعتقد أنه لا مجال لانخفاض أسعار العقار، ناهيك عن حاجته الماسة إلى امتلاك العقار الآن وليس غدا.
ما تأثير اشتراط دفعة مقدمة بواقع 30 في المائة في إقبال المقترضين على برامج التمويل العقارية؟ الحقيقة أن هذا الاشتراط مبالغ فيه من جهة، ومن جهة أخرى من غير المتوقع أن يكون له تأثير كبير لسببين رئيسين: الأول أن هناك طرقا كثيرة يمكن لطالب التمويل اللجوء إليها لتوفير مبلغ الدفعة الأولى، سواء عن طريق الجهات التمويلية المرخصة أو غيرها، الأمر الذي يفتح المجال مرة أخرى لانتعاش وسائل التمويل غير النظامية وتعاظم تكلفة التمويل على المقترض. أما السبب الآخر لعدم فاعلية اشتراط الدفعة الأولى هو أن المسألة مطاطية إلى حد كبير نتيجة اعتماد الجهات التمويلية على تقديراتها الذاتية لقيمة العقار. فإن رغبت جهة تمويلية في تجاوز شرط الدفعة المقدمة، فسترفع من تقديرها لقيمة العقار بشكل يجعل مبلغ التمويل المقدم للمشتري يغطي أكبر قدر ممكن من قيمة العقار. على سبيل المثال، لو كان السعر المتفق عليه بين البائع والمشتري مليون ريال، يمكن للجهة التمويلية تقييم العقار بمبلغ 1.3 مليون ريال، فيتم تمويل المشتري بمبلغ 910 آلاف ريال وتكون الدفعة الأولى فقط 90 ألف ريال. هذا التجاوز ممكن الحدوث في غياب الأسعار المرجعية للعقارات حتى الآن، الذي لن يتم قبل عام 2017 عندما تقف الهيئة السعودية للمقيمين المعتمدين على قدميها.
من ناحية أخرى، هناك من يعتقد أن هبوط العقار المتوقع سيخفض حجم الدفعة الأولى وينسى أنه حتى لو انخفضت أسعار العقار، فلا يزال من الواجب على المشتري دفع نسبة 30 في المائة كدفعة مقدمة. فبدلا من دفع 300 ألف ريال مقدما لشراء منزل بسعر مليون ريال، سيدفع المشتري 250 ألف ريال مقدماً لشراء منزل انخفضت قيمته بنسبة 17 في المائة، هذا إن حدث بالفعل انخفاض بهذا الحجم. إذاً يجب ألا يعول المشتري كثيراً على تلافي دفع 30 في المائة مقدماً نتيجة انخفاض أسعار العقار، ويجب على المؤسسة إدراك أن اشتراط دفعة مقدمة بهذا الشكل ليست عملية ولا تخلو من محاذير عديدة.
ماذا عن فائدة الهيئة السعودية للمقيمين المعتمدين؟ فكرتها جميلة ولكن فائدتها على أرض الواقع محدودة، والسبب أنه لا يوجد وسيلة علمية ولا عملية لوضع سعر محدد لقيمة أي عقار، ناهيك عن عدم وجود ما يلزم البائع بقبول هذا السعر. وحتى بعد اكتمال عمل هذه الهيئة وعلى فرض توصلها إلى طريقة مهنية عادلة لتقييم العقار، ستبقى هذه مجرد عملية تقديرية غير ملزمة للبائع ولا المشتري، حتى وإن كانت ملزمة للجهة التمويلية. يمكن تشبيه عمل هيئة التقييم بإنشاء جهاز حكومي لتحديد أسعار الأسهم! قد يكون لذلك فائدة كقيمة مرجعية للاستئناس بها، غير أنها لن تفرض نفسها في سوق حرة تتحدد الأسعار فيها من خلال آليات العرض والطلب. نعم قد يكون هناك فائدة من مخرجات هيئة تقييم العقار في تحديد مبلغ التمويل المقدم لطالبي القروض العقارية وتأثير ذلك في مبلغ الدفعة المقدمة، غير أنه لا يوجد ضمان في أن ذلك سيكون في مصلحة المقترض. على سبيل المثال وعطفا على تجارب مشابهة لآلية التثمين المتبعة من قبل المصارف وصندوق التنمية الزراعية، غالباً يكون التثمين متحفظا إلى حد كبير. هنا ستنشأ إشكالية ذات تأثيرات بالغة، فبينما يطمح المتقدم على قرض بتثمين عال ليتحصل على التمويل الكافي، ستؤثر عملية التقييم بشكل غير مباشر في الأسعار الفعلية.
لا شك من أن الهدف من اشتراط دفعة مقدمة بنسبة عالية، كما شرّعت به المؤسسة، يأتي في المقام الأول لحماية الجهات التمويلية من مخاطر تعثر المقترض عن السداد، غير أنها كما ذكرنا ليست عملية وليس لها فائدة، خصوصا إذا علمنا أن المؤسسة على ما يبدو تسمح للجهات التمويلية أخذ ضمانات أخرى غير رهن العقار ذاته، وهذا يتضح في أكثر من مكان في أنظمة التمويل العقارية، حيث يشار إلى “ضمانات أخرى”. أعتقد أنه فات على المشرّع ضرورة التأكيد على عدم جواز طلب أي ضمانات أخرى، عدا العقار المستهدف بالتمويل، منعاً لإعاقة عملية التمويل وتحميل المقترض ما لا يحتمل. بمعنى آخر، كان من الواجب على المؤسسة عدم الأخذ بحماية أموال الجهات التمويلية بكل الطرق الممكنة على حساب سوق التمويل ومصلحة المقترضين. أمر عجيب أن يحمي المصرف نفسه بعدم دفع أكثر من 70 في المائة من قيمة العقار (التي يحددها المصرف ذاته)، ورهن صك العقار لمصلحة المصرف، واشتراط ضمانات أخرى قد تشمل الراتب الشهري وأصولا أخرى.
لست متفائلا كما ينبغي بأن آلية التمويل العقاري ستكون ناجحة. فإضافة إلى ما تم ذكره أعلاه، هناك تكلفة القرض ذاته، حيث أجاز النظام الجديد استخدام سعر الفائدة المتغير إضافة إلى سعر الفائدة الثابت، ما يعني أن تكلفة القرض قد ترتفع أو تنخفض بعد توقيع العقد، وفقا لأسعار الفائدة السائدة التي يمثلها سعر تكلفة الفائدة بين المصارف “سايبور”. وهذا مثال آخر على حماية المصارف والجهات التمويلية لأنفسها تحسبا لارتفاع أسعار الفائدة مستقبلا بشكل قد يوقع المقترض في مخاطرة غير محسوبة في حال ارتفعت أسعار الفائدة بشكل كبير. فبينما مبلغ الأقساط الشهرية معلوم مسبقاً وبشكل كامل للمقترض بسعر الفائدة الثابتة، لن يكون للمقترض بالسعر المتغير مجال لمعرفة ما سيدفعه بشكل شهري في المستقبل.
الصعوبات الأكبر ستأتي لاحقاً عندما يتم تفعيل آلية إعادة التمويل من خلال شركة إعادة التمويل التي سينشؤها صندوق الاستثمارات العامة، وكذلك من خلال طرح أوراق مالية من قبل شركات التمويل بهدف إعادة التمويل، وذلك عندما تقوم شركات التمويل بتجميع ما لديها من عقود تمويلية ومعاملتها كأصول يصدر بناء عليها صكوك أو سندات تباع في السوق المالية في المملكة. تأتي الخطورة على النظام المالي ككل عندما تقوم شركات التمويل بالاقتراض لتتمكن من منح مزيد من القروض، وعندما تقوم شركة إعادة التمويل بالاقتراض لتتمكن من شراء عقود القروض من شركات التمويل.
لا شك أننا أمام تجربة جديدة وضرورية ومن المهم أن تكون لدى المؤسسة المرونة اللازمة لتعديل ما يلزم من أنظمة ولوائح في ضوء ما يستجد من أمور أثناء التطبيق.
نقلا عن الاقتصادية
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال