الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مستشار قانوني
BakerHa@
انخفاضُ أسعار النفط أظهر تبايناً في المواقف والتحليلات، حيث غَلَب على العديد من المقالات والتقارير سمة «الإرجاف الاقتصادي»، وتسلسل النزعة التشاؤمية لرسم مستقبل اقتصادي مظلم، مما جَرَّأ غير المختصين بأن يكونوا محللين اقتصاديين وخبراء جيوسياسية يسقطون الاقتصاد على السياسة. وتسبب ذلك في إثارة هلع بعض الإعلاميين وطلبهم من مسئولي الدولة تصريحات وتطمينات. فكانت تلك التحليلات بدايةَ كرة الثلج الذي تغذّت بالشائعات، وأشعلت وسائل التواصل الاجتماعي انتشارَها على نحو كشف عن وعي المجتمع المتواضع. فقد أظهرت دراسة استطلاعية أجراها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني أن 82% من السعوديين يؤكدون تأثير الإشاعات على الرأي العام «وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ».
إنَّ إطلاق التحليلات «المسمومة» نوعٌ من الإرجاف يمس الأمن الاقتصادي؛ لأنَّه التماس للفتنة، وتثبيط للهمم، وشل للعزائم، فتلك الأخبار مُؤداها اضطراب أحوال الناس بما يُضعف قلوبهم ويهيج خواطرهم. وبلا شك أن الإرجاف وإطلاق الشائعات جريمةٌ لمساسها بالنظام العام، إذْ يتصدى لها نظام مكافحة جرائم المعلوماتية، ونظام المطبوعات والنشر الذي يمنع نشر ما يضر بالوضع الاقتصادي، كما حظرت لائحة سلوكيات السوق الصادرة عن هيئة السوق المالية على أيِّ شخص التصريح شفاهةً أو كتابةً ببيان غير صحيح، بهدف التأثير على سعر أو قيمة ورقة مالية، أو حث شخص آخر على شراء أو بيع ورقة مالية، أو حثه على ممارسة حقوق تمنحها ورقة مالية، أو الإحجام عن ممارستها. وحظرت كذلك على أيِّ شخص الترويج، بشكل مباشر أو غير مباشر، لبيان غير صحيح يتعلق بواقعة جوهرية، أو لرأي بهدف التأثير على سعر أو قيمة ورقة مالية، أو أي هدف آخر ينطوي على تلاعب.
ولقيام التجريم بالإرجاف الاقتصادي يتعين استظهار القصد الجنائي للكاتب، حيث إنِّ الارجاف الاقتصادي له علامات تدل عليه: فتارةً يكون بترويج أخبار كاذبة لا أساس لها من الصحة، وهنا يجب التفطن إلى مَصدر الأخبار ومدى مساهمة الإعلام المعادي في انتهاز الفرصة لبث الشائعات. وتارةً يكون بنقل الأخبار المشكِّكة، والتي أصلها صحيح وتفاصيلها كاذبة لا أساس لها من الصحة، وبذلك تنطوي على كثير من الناس لأن المضامين تحتاج لفحص قد لا يتقنه كثيرون. وتارةً يكون بإطلاق الأخبار السيئة التي أصلها ومضمونها صحيح؛ إلا أنَّها تُوظف بخبثٍ في سياق يخدم أغراض ناشرها، من حيث إشعال فتيل الفتنة والهلع في أوساط كثير ممن لا يعرف مآلات الأمور.
إنَّ علامات الإرجاف ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بأسباب إطلاقه والباعث على نشره، فمن يقوم بذلك إمِّا متبعٌ لهواه دون إداركٍ ونظر في العواقب، أو لجهله لقصر نظره عما يُحدثه من قلاقل، أو لعداءه الخفي ورغبته في إلحاق الأذى بالمجتمع «هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ»، وأحياناً يكون لوجود الفراغ وقلة الرقابة الذاتية التي تردع الفرد عن نقل الأخبار الملفّقة، لاسيما إذا تحولت لأداة تشويه سمعة الغير أو إلصاق التهم بهم كما قال تعالى: «وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ»، كما أنَّ حب الظهور أسلوب المرضى النفسيين كحيلة نفسية بامتطاء تلك الأخبار كموجةٍ للصعود على حساب الآخرين، وقد يكون الوازع شعورٌ بالكراهية ضد الآخرين. إنَّ الإرجاف الاقتصادي أحد أوجه الحروب النفسية التي تستهدف هزيمة الروح المعنوية ببث الشائعات وزرع اليأس، وهذا هو منهج الأعداء والمنافقين كما وصفهم الله تعالى: «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ».
حريةُ الرأي والتعبير مكفولةٌ لأولئك الذين يعرفون معنى مسؤولية الكلمة، ويدركون المسؤولية المهنية والأخلاقية، وأثرها القانوني أمام الجهات الرقابية. فأوصافٌ مثل: «شبح الإفلاس، هاوية الانهيار، اضرابات عمالية» وغيرها من أوصاف تُلصق بالاقتصاد السعودي تزامناً مع هبوط أسعار النفط، بلا شك أنها نوعٌ من الإرجاف الاقتصادي، وكذلك ما تبعها من تكهنات وإشاعات بتقليص الرواتب والأجور والبدلات، وانهيار حاد للسوق المالية والعقارية، وغيرها مما تركت أثراً سلبياً على المجتمع الذي تلقفها كحقائق مُسَّلمة.
ليس بسرٍ اعتماد الاقتصاد السعودي على النفط، ومن الطبيعي أن تقود انخفاض أسعاره إلى وجود عجز في الموازنة السنوية، إلاَّ أن من المنُصف تذكر أن أسعار النفط قد وصلت إلى قاعٍ أخفض مما عليه الآن كما في فبراير 1999م حيث بلغ سعره «17.43$»، وبلغت الذروة في يونيو 2008 إلى «146.12$» ولم تنشأ حينها ذات الهجمة الإرجافية. والمستطلع لمؤشر أسعار النفط «Oil Price History Index» منذ اكتشافه إلى الوقت الحالي ليجد أنه متوسطه يتراوح بين 41$ إلى 62$ للبرميل، مما يجعل التحدي الحقيقي هو التحكم في المصروفات مع استمرار التنمية، ونمو إجمالي الناتج المحلي «GDP».
إنَّ استقرار أوضاع البنوك السعودية يمنحها دور المحرك الأساسي لعجلة النمو، حيث توقعت مؤسسة النقد العربي السعودي أن يُسجل الاقتصاد السعودي نمواً نسبته 3% في 2015م بدعمٍ من احتياطيات مالية ضخمة تساعد المملكة على امتصاص أيِّ صدمات خارجية. إنِّ ذاكرة الزمن تُنبؤ عن إعجاب الغرب بما حققته المملكة من قفزات تنموية وصفتها مجلة نيوزويك الأمريكية «Newsweek» بأنها «أعظم محاولة للتخلص من أسر التخلف منذ أن بدأت اليابان محاولتها للأخذ بأسباب المدنية الحديثة في القرن الماضي». إذْ تتميز السعودية بانخفاض مستوى الدين العام بمعدل 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وبهذا تكون من أفضل دول العالم في ذلك. ومن الغريب ألاَّ تجد ذات الهجمة الإرجافية على اقتصادات أخرى مثل اليابان التي تُعد من الدول الأكثر مديونية في العالم بنسبةٍ تزيد عن 246% من ناتجها المحلي الإجمالي.
كما أنَّ للإرجاف الاقتصادي وجهاً آخر يتمثل في غياب الشفافية المطلوبة لبناء القرار الاستثماري، وعدم التهيؤ لمستقبل التحديات الاقتصادية اعتماداً على بيانات تاريخية، والمبالغة في التطمينات التي من شأنها استرسال المجتمع في ثقافة الاستشراء الاستهلاكي وضمور ثقافة الاستثمار والادخار لديه. لذا عادةً ما تكون الأزمات المالية فرصةً ذهبيةً للدول لمراجعة بيتها الاقتصادي واختبار هيكلته في إطار الإصلاحات المستمرة التي تجريها؛ لأن عمق الإصلاحات يزيد من كفاءة الإنفاق الحكومي ويؤدي إلى زيادة الموارد وتنوعها. فمن رحم الأزمات الاقتصادية ازدهر مفهوم «خصخصة المؤسسات الحكومية»، حيث قادت الأزمة الاقتصادية فترة السبعينات بريطانيا لتبني الخصخصة؛ لإيمان مارجريت تاتشر بأن الخصخصة قادرةٌ على إنقاذ الاقتصاد من احتقان الديون وتحويلها إلى إيرادات؛ لأن تشغيل القطاع الخاص يؤمن بأن بقاءه مرهون بربحيته لاختلاف ايدلوجية تشغيله عن التشغيل الحكومي، وبذلك تخلَّصت الخطوط الجوية البريطانية وقطاع الكهرباء من الأزمة الحادة.
نشرت صحيفة مال الاقتصادية ]25 أغسطس 2015[ تقريراً «يرصد توجه الحكومة نحو التخصيص إذْ يوفر إيراد بـ 1 تريليون ويزيح عن الخزينة 100 مليار سنويًا». وبالرغم من أنَّ تنفيذ الخصخصة يستغرق سنوات ويتطلب العديد من الإجراءات إلا أنَّ مناقشة ذلك جدياً يعني الحديث عن أدوات ترشيد الإنفاق العام وحماية المال العام عبر تعزيز فعالية الإنفاق الحكومي وكفاءته؛ لأن التحدي الحقيقي هو ترشيد الإنفاق العام وحمايته من الفساد.
فالأقلام الناصحة هي التي تُقدم مصلحة الوطن بلا تهويل، ولا تُرخي سمعها للأخبار غير الموثوقة والأقلام المعادية فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس مطية الرجل: زعموا». إنَّ الظروف المحيطة بالمملكة تلقي مسؤوليةً إضافيةً على الكتّاب بألاَّ يكونوا معاويل هدم لأمن المجتمع الاقتصادي، ففي الأزمات يحسن تذّكر مرتكزات القوة، فالمملكة ليست مجرد مُصدرٍ للنفط، فالبرغم من عدد الأزمات التي أحاطت وتحيط بها فقد حققت مكتسبات دولية من الإجحاف غض النظر عنها. فتحديات أزمة السبعينات تختلف عن تحديات العصر الحالي حيث كانت الكوادر البشرية التحدي الأساسي بالرغم من وجود السيولة، أما الآن فإن التحكم في الانفاق الرشيد يُعد تحدي التنمية القادم، وهذا يتطلب مرونةً في التأقلم لحل معضلات التنمية.
الهبوب
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال