الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مستشار قانوني
تهدف الخصخصة إلى تحويل عدد من القطاعات الاقتصادية والخدمات الاجتماعية التي لا ترتبط بالسياسة العليا للدولة من القطاع العام إلى القطاع الخاص. عادةً يكثر الحديث عن الخصخصة كأحد الحلول الاقتصادية الاستراتيجية لمواجهة الأزمات المالية التي تضطر الدول إلى حلولٍ ذكيةٍ عوضاً عن الإجراءات التقشفية «Austerity policies»، التي قد تُسهم مؤقتاً في خفض العجز في الموازنة إلا أنها لا تحدث تحسيناً أو تطويراً مستداماً.
إنَّ المتأمل في نسبة مساهمة النفط في إيرادات الدولة؛ ليدرك أن الإنفاق الرأسمالي سيواجه تحدياً إذا استمر على ذات المستوى. وفي المقابل تبرز فرصٌ من شأنها تحويل مصروفات الدولة إلى إيرادات بل مع زيادة في الفعالية والكفاءة. فالإدارة الحكومية تستهدف الوفاء بالمهام الملقاة على عاتقها إلا أنها تواجه صعوبات في حسن استخدام الموارد المتاحة على الوجه الأمثل؛ لاختلاف فلسفة التشغيل الحكومي وإدارته عن فلسفة التشغيل التجاري الذي يقوم على الربحية من خلال خدمة العملاء. ومن أوجه الخصخصة التي نجحت تطبيقاتها في المملكة نقل إدارة مرفق ما إلى القطاع الخاص، لتقديم الخدمات إلى المواطنين نيابة عن الدولة، مما يعني «تجيير» الخدمات لمشغل تجاري «Privatising» وقد يُطلق عليه «الإسناد الحكومي» «Outsourcing».
تُعد كتابات العدل أحد مقومات السوق العقارية والأعمال، فمحور أعمالها يقوم على التوثيق؛ وفقًا لأحكام أعمال كتابات العدل الصادر في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله عام 1944م الذي أسس لبنات معالم كتابات العدل كإدارات حكومية تُعنى بجوانب التوثيق سواء للعقود أو المبايعات أو الرهون أو الأقارير أو الوكالات أو غير ذلك، على نحو يُراعى فيه الاعتبار الشرعي والتكامل الإجرائي والنظامي. ومنذ ذلك التاريخ والدولة تتكفل بتكاليف تلك المهام عن المواطنين والمقيمين على حد سواء، ولك أن تتخيل حجم تلك النفقات إلى يومنا الحالي التي تُضاهي بمرتين ميزانية مشروع تطوير القضاء. وفي المقابل تسعى الدول إلى توفير تلك الخدمات برسوم تدفع إمِّا للدولة أو للقطاع الخاص الذي يقوم بذلك نيابةً عن الدولة عبر ترخيص وإجراءات تضبط الأعمال.
إنَّ تحويل كتابات العدل إلى القطاع الخاص ليس ترفاً، وإنما استراتيجية تستهدف رفع مستوى التوثيق العقاري، ومرونة الحصول على التوثيق المدني، مما يتيح تفرغ وزارة العدل وتركيزها على مهامها الأساسية بالإشراف على مؤسسات العدالة بدلاً من تشغليها والإشراف عليها. إنَّ الممارسات الرائدة الدولية تكشف عن إنشاء جهاز مركزي يشرف على أعمال التوثيق العقاري أو المدني من خلال «تجيير» التشغيل للقطاع الخاص أو جعله مؤسسةً عامةً.
تكشف تقارير وزارة العدل أن عدد منسوبي كتابات العدل في المملكة يقدر بأكثر من ثلاثة آلاف موظف موزعين على كتابات العدل الأولى والثانية مناصفةً، وبالرغم من وجود التقدم التقني في كتابة العدل الثانية، إلا أنها لم تستجب لمتطلبات بيئة الأعمال من حيث المرونة والفعالية، كما أنَّ كتابة العدل الأولى تواجه تحديات من حيث التحقق من الملكية، ووجود بعض الخلل «التاريخي» في إجراءات نقلها، مع تركة ثقيلة لتجاوزات التسجيل تركت أثرها على القضاء، ولا تزال الصحف تطالعنا عن إلغاء آلاف صكوك الأراضي المسجلة بتجاوزات. فضلاً عن التحديات الحقيقية في تطبيق نظام التسجيل العيني الذي اعتمدت لائحته التنفيذية منذ 2004م، وتعثرت تطبيقاته وتداخلت بين وزارة العدل ووزارة الشئون البلدية والقروية ممثلة في البلديات.
يتجاوز حجم السوق العقارية السعودية 1.3 تريليون ريال، وبذلك يُعد أكبر سوق عقاري في منطقة الشرق الأوسط، ويحتل قطاع العقارات يحتل المرتبة الثانية في الاقتصاد الوطني بعد قطاع النفط؛ لمساهمته بما لا يقل عن 55 مليار ريال في الناتج المحلي الإجمالي وبنحو 9,5% من الناتج المحلي غير النفطي، وهذا يضع ثقلاً لحل معضلات الملكية العقارية التي ألقت بظلالها على القضاء، فقد وجهَّت وزارة العدل المحاكمَ العامةَ في كل مناطق المملكة بإنهاء القضايا الخاصة بالنزاع العقاري وعددها 4575 نزاعاً خلال العام 1436هـ. وبالرغم من اختلاف أسباب تلك القضايا إلاَّ أنها تنطلق من النزاع حول الملكية العقارية التي لو ضُبطت بإجراءات تمنع التجاوزات لأسهم ذلك بانخفاض أعداد تلك القضايا.
إنَّ نموذج إنشاء جهاز مركزي يُدعى «هيئة الملكية العقارية والتوثيق» سيعمل على الرقي بأعمال التوثيق في المملكة عموماً، بحيث يعمل على تطوير وربط أعمال سجلات الملكية العقارية بأعمال التوثيق، ويعمل على توفير إحصائيات ومعلومات من شأنها رسم استراتيجية للجهات الحكومية والقطاع الخاص. إنَّ المملكة بحاجة إلى وجود سجل هوية لكل كليومتر مربع فيها «Land Registry»، بحيث يعرض تاريخ الملكيات وأسماء أصحابها، وموضحاً للحقوق العقارية عليه، والأسعار التاريخية. وتتيح قاعدة البيانات هذه للقضاة صلاحية واسعة في الاستفسار وحجز أموال المماطلين، وتقييد الملكية بصورة مباشرة. ويسهم في إسراع إصدار حجج الاستحكام، وفرز الملكيات، والمحافظة على أملاك الدولة العقارية، ومعرفة الأراضي الوقفية، والتي تعود لمجاهيل. كما أنَّ قاعدة البيانات قادرةٌ على استعراض كافة السجلات المؤرشفة تقنياً في جميع المناطق بالمملكة، مما يلغي الولاية المكانية في الإفراغات ويجعل أعمال الإفراغ تُجرى من خلال مقارٍ افتراضية الكترونية «E-Services»؛ مما يُوفر إيجارات المقار المخصصة لكل مدينة، كما نجحت السوق المالية «تداول» في التواجد الالكتروني دون الحاجة لإنشاء صالات تداول في مدن المملكة، وأصبحت قيود التداول على الأسهم ذات مصداقية عالية.
إنَّ حصول المملكة على الصدارة الدولية في سرعة نقل الملكية العقارية، لا يعني بالضرورة الأسرع في التسجيل العقاري المعروف دولياً؛ لأن التسجيل العقاري على نوعين: الأول يتمثل في توثيق التعاقد بين الطرفين بعد استكمال الجوانب الإجرائية، والثاني في التحقق من سلامة تسلسل انتقال الملكية. فبحسب الممارسة في المملكة فإن النوع الأول محل اهتمام تقني من كتابات العدل، أما النوع الثاني فمن اختصاص القضاء الذي يتصدى للصكوك المزَّورة، والمزدوجة، والمتداخلة، والوهمية ويلغيها، وإن كانت صادرة كمحررات رسمية من كتابات العدل!!
عالمياً وقبل تسجيل الملكية يجري التحري والتثبت من الملكية وانقطاع دعاوى الاستحقاق عنها بالشهر العقاري من خلال إثبات المحررات في دفاتر وسجلات الملكية العقارية، والتأشير عليها بما يفيد شهرها، ومتابعة التأشيرات الهامشية على صك الملكية، ومن ثَّم يجري إصدار محرر رسميٍّ يُعد حجة في مواجهة الغير شأنه شأن أحكام القضاء. ومن هنا يتضح أثر غياب «نظام الشهر العقاري» في رفع مستوى الشفافية في التعاملات العقارية، ولا يستبعد أن يُعزى إليه تضخم أسعار العقار الذي أصبح ملاذاً آمناً لمن لا يرغب الكشف عن ثروته، وباباً للتحايل والصفقات الوهمية وتعثر للمساهمات العقارية، وغسيل الأموال؛ مما سبَّب عشوائية السوق العقارية وضبابية في الرؤية الاستثمارية التي انعكست على عمليات التمويل العقاري وتعثرها، وتأخر البيئة المناسبة لشريعات سندات دين الرهن العقاري «Mortgage Bonds»، وسندات توريق الديون العقارية «Securitization».
أمَّا الشق المكمل لأعمال «هيئة الملكية العقارية والتوثيق» فهو مجموع ما تقوم به كتابة العدل الثانية، والمرونة التي أتاحتها لائحة الموثقين وأعمالهم، بحيث ترتقي أعمال التوثيق المدني للعقود والتعاملات إلى مرتبة السند التنفيذي، تحت إشراف مركزيٍّ على أعمال الموثقين وربطهم تقنياً ببوابة الكترونية، مع ضوابط أرشفة دقيقة تضمن نزاهة السجلات. وهذا بدوره سيقلل من شكاوى المستأجرين، ويضبط استثمار «تصكيك الأجرة»، وتقليل قضايا المستأجرين أمام المحاكم، فضلاً عن استحداث وظائف «موثقين» في القطاع الخاص. إنَّ إتاحة الخدمة برسوم هو نقل لعب التوثيق المالي من الدولة إلى المستفيد الذي لا يمانع في الحصول على خدمة أفضل، وبمرونة أعلى مقابل رسوم معقولة كما هو حال دول العالم. فبيئة الأعمال تحتاج إلى دور فعّال للموثق لاسيما في التعاملات الدولية، والأداء الحكومي لا يمكنه اللحاق بالتشغيل التجاري.
إنَّ توجه الحكومة إلى خصخصة قطاعاتها كما نُشر في صحيفة مال الاقتصادية ]25 أغسطس 2015م[، يُشجع مناقشة كل ما من شأنه ترشيد الإنفاق العام وتعزيز فعالية الإنفاق الحكومي وكفاءته، والتقليل من الدعم الحكومي بمشاركة القطاع الخاص؛ لتخفيف العبء عن الدولة وتقديم خدمة أفضل. لقد أصبحت الفرصة الآن مواتيةً لتبني إنشاء «هيئة الملكية العقارية والتوثيق» في ظل حكومة رشيقة القرارات، حازمة المبادرات، تعشق الإنجازات واختصار المسافات؛ والنهضة بتنمية الوطن.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال