الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مستشار قانوني
في أبريل 2000م تأسست الهيئة العامة للاستثمار «SAGIA» كذراع حكومي يعمل على تحرير الاقتصاد، وتقديم المرونة اللازمة لبيئة الأعمال، ولإدارة شمولية للبيئة الاستثمارية السعودية. وارتبط تنظيمها بالمجلس الاقتصادي الأعلى والذي يتولى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية مهامه حالياً. وقد حدَّد تنظيم الهيئة العامة للاستثمار في مادته الثالثة نطاق عملها والغرض من إنشائها والمتثمل في: العناية بشؤون الاستثمار في المملكة، وتنمية وزيادة الاستثمارين «المحلي والأجنبي»، واقتراح الخطط التنفيذية والقواعد الكفيلة بتهيئة مناخ الاستثمار في المملكة ورفعها إلى المجلس. كما تُعد الهيئة بوابة الدخول للمستثمرين الأجانب عبر نظام الاستثمار الأجنبي من خلال إصدار التراخيص اللازمة لممارستهم النشاط الاستثماري.
وقد أدركت الهيئة أن حجر الزاوية لمستقبل الاقتصاد السعودي هو قدرته على المنافسة مع الدول الأخرى، فَسَعت على تطوير منظومة الاستثمار الأجنبي حتى تمكنت من وضع منصة أعمال تُسهّل على المستثمر الأجنبي الدخول لبيئة أعمال منافسة بهدف جعل السعودية ضمن قائمة الدول الأوائل في العالم في جذب وتنافسية للاستثمار، والذي التي سينعكس إيجاباً على الاقتصاد السعودي. وتكشف تقارير أداء الهيئة عن جهودها ومبادراتها في تفعيل نظام الاستثمار الأجنبي، والعناية بشؤون المستثمر الأجنبي. من جهة أخرى فإن التقرير لا يُظهر ذات حجم العناية فيما يتعلق بشؤون الاستثمار المحلي، وتذليل العقبات أمامه، وتهيئة مناخ الاستثمار فيه، لدرجة شاع عند الكثيرين أنها الهيئة العامة للاستثمار «الأجنبي»، وأن تنظيمها غير معني بذات الدرجة بالاستثمار «المحلي»!
تعمل الجهات الحكومية على توفير الخدمات اللازمة لبيئة الأعمال، إلا أن ذلك العمل لابد له من قارئ يعمل على توزيع «ألحان» تلك الخدمات؛ لإيجاد «التناغم» بينها وبما يوفر المرونة لرجال الأعمال، وإدخال التحسينات على بيئة الأعمال المحلية، وتوطين وجذب المشاريع الحيوية. فكم من رجل أعمال فَضّل دولةً أخرى لإقامة نشاطه، وكم من مشروع حيوي تعثرت إقامته في السعودية، وكم من الرساميل الوطنية هاجرت لفقدان الجاذبية الاستثمارية.
إنَّ العمل على قراءة عقبات الاستثمارية المحلية وتذليلها لا يقل أهمية عن تذليل عقبات الاستثمار الأجنبية، خاصةً وأنَّ غياب هذا الدور خَلقَ حاجةً لإنشاء «هيئة لتوليد الوظائف ومكافحة البطالة»، والتي ترتبط تنظيمياً برئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وتتولى العمل على توليد الوظائف ومكافحة البطالة في المملكة من خلال التنسيق بين جميع الجهات الحكومية والخاصة ذات العلاقة بسوق العمل وتعزيز المشاركة بينها، والعمل على تنمية القطاعات المولّدة للوظائف، واستثمار الميزة التنافسية في مناطق المملكة لهذا الغرض. وبذلك فإنَّ تنظيم هيئة توليد الوظائف يتقاطع مع أغراض الهيئة العامة للاستثمار فيما يتعلق بدعم الاستثمار المحلي.
في كل عام يُسلط تقرير البنك الدولي حول ممارسة الأعمال «Doing Business» الضوءَ على إصلاحات بيئة الأعمال في دول العالم. فهناك مؤشرات دولية لقياس بيئة أداء الأعمال من حيث: سهولة بدء الأعمال، والتعامل مع تراخيص البناء، وتسجيل الملكية، والحصول على الكهرباء، والحصول على الائتمان، وحماية المستثمرين، وتنفيذ العقود. وهناك مؤشرات تقيس الاستقرار الاقتصادي الكلي من حيث تقلب معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، ومعدل التضخم، وتقلب سعر الصرف الحقيقي الفعال. ومؤشرات تقيس البيئة المؤسسية من حيث المشاركة والمحاسبة، والاستقرار السياسي وغياب العنف، وفعالية السياسات والإجراءات الحكومية، والحكومة الالكترونية، ومدى سيادة القانون، ومؤشر السيطرة على الفساد. ومؤشر الأداء اللوجستي من حيث قياس كفاءة أداء التخليص الجمركي، وكفاءة أداء البنية التحتية والتجارة والنقل، وأداء الشحن الجوي، وجودة وكفاءة الخدمات اللوجستية وتتبع وتعقب الأداء، وزمن إنجاز الإجراءات، وكثافة الطرق البري، وأداء النقل. وهذا يدل على أن قراءة الاستثمار يتطلب تظافر الجهود مشتركة لتحقيق هدف معين، ولا يتأتى هذا إلا بوجود قارئ يتكهن بالعقبات التي تحد من رفع مستوى ممارسة الأعمال ويعمل مع الجهات الحكومية على تذليلها.
إنَّ من المتوقع أن تُضفي تعديلات نظام العمل الأخيرة مرونةً على سوق العمل لتوطين الوظائف، إلا أنها لن تحل معضلة ضعف التأهيل التعليمي، وردم الفجوة بين متطلبات القطاع الخاص ومخرجات التعليم. من جهة أخرى فإنَّ الروتين الحكومي يُعّقد بيئة الأعمال السعودية، ويُعطّل نشاط القطاع الخاص بشكل عام، لأن القطاعات الحكومية لا تقرأ مجتمعة ذات الخريطة الاستثمارية لرجل الأعمال. فالمستثمر في الترفيه أو الموصلات -على سبيل المثال- قد يجد صعوبات مع جهة حكومية ما قد لا يَسمح تنظيمها أو فهم «خاص» لأحد منسوبيها بإضفاء المرونة لتسهيل استثماراته. خاصةً وأن حجم المعلومات عن مجالات الاستثمار ودراسة السوق المحلية تُعد قليلةً أو بالأحرى غير دقيقة على نحو يكشف مخاطر الاستثمار ومعالمه وكلفته الحقيقية. فلو أن رجل أعمال قرَّر الاستثمار في الصالات الرياضية النسائية المغلقة لعَلمَ متأخراً أنه لن يتمكن من الحصول على الترخيص اللازم لممارسة النشاط، رغم عدم وجود نص قانوني بالمنع، ولواجهته صعوبات أيضاً في الاستثمار بتوفير وسائل مواصلات للعملاء، لم تكن ضمن دراسات الجدوى في بداية المشروع. كما يشكو عدد من المستثمرين بعدم المرونة الكافية في إجراءات الحصول على تأشيرات لكثير من المهن التي لا يرغب السعوديين العمل فيها، وتحديدًا المهن التي توفرها المصانع الجديدة التي يرغب المستثمرون في إنشائها داخل البلاد.
وبالرغم من أنَّ المملكة قد احتلت المركز 49 من حيث تنافسية بيئة أنشطة الأعمال في تقرير ممارسة 2015م لأنشطة الأعمال، إلا دولة الإمارات احتلت التصنيف الأعلى في المنطقة من حيث سهولة ممارسة أنشطة الأعمال، بالمرتبة رقم 22 بين 189 اقتصادًا في جميع أنحاء العالم، وكان أثر ذلك واضحاً في اجتذابها لعدد من الرساميل الوطنية والأجنبية، والتي تتخذ في العادة دبي مقراً لها وتمارس أنشطتها في السعودية. وليس أدل على هذا من أن كبار بيوت الخبرة الاستشارية تفتح مكاتب تمثيلية لها في السعودية بينما تمارس نشاطها الحقيقي من دبي، وتفوّت بذلك فرصاً استثمارية عظيمة على الاقتصاد السعودي.
قامت الهيئة العامة للاستثمار برصد 106 معوق لبيئة الأعمال (2003م) بعد استطلاع أجرأته كشف عن 300 معوق دُمجت في 106 حسب قطاعاتها، كما تناولت دراسات عدة أخرى مقترحات لتحسين بيئة العمل، كالبحث الميداني الذي أجراه معهد الإدارة العامة لواقع وتحديات استثمار رأس المال الوطني والأجنبي في السعودية والذي كشف عن معوقات الاستثمار في السعودية (2009م)، وكذلك التوصيات التي أصدرتها غرفة الشرقية (2004م) وغرفة جدة لمعالجة معوقات الاستثمار في السعودية (2013م)، ودراسات منتدى الرياض الاقتصادي في دوراته الماضية (2003م-2015م). إلى غير ذلك من الدراسات والتوصيات التي تؤكد وجود حاجة حقيقة إلى «خريطة شاملة» ترصد معوقات بيئة الأعمال، وتحديثاً لما استجد عليها، وفقاً لمؤشر يحدد أوليات المعالجة، ومؤشر لقياس مستوى التقدم في حل تلك المعوقات «KPIs»، والخط الزمني المتوقع لحلها، توحيداً للجهود وتركيزاً على التخفيف العاجل من آثارها المثبَّطة لبيئة الأعمال المحلية. وهذا ما يتماشى مع توجه الدولة بإنشائها مركزاً لقياس أداء الأجهزة الحكومية؛ لأن قياس الأداء سينعكس على مسيرة الإصلاح الاقتصادي، وهو ما سينعكس أيضاً على أداء بيئة الأعمال على نحو مملوس يمكن قياسه دورياً. كما أن قياس أداء إصلاحات بيئة الأعمال سيعطي معايير دقيقة تُمَّكن أصحاب القرار بالدولة من إجراء التعديلات الهيكلية وإدخال التعديل اللازم على الخطط والاستراتيجيات، لمعالجة حالات «الاختناقات» التي تُعيق مرونة بيئة الأعمال السعودية. فكل ما ليس له مقياسٌ لا يمكن أن يُقاس، ولا يمكن التحكم في إدارته، ولا ضبط جودته، ولا التنبؤ بمخاطره، ولا القدرة على تحسينه وتطويره.
لا شكَّ في أن السعودية قد خطت خطوات متقدمة في الإصلاح الاقتصادي، لاسيما وأن إعلان هيئة السوق المالية في 2015م بفتح سوق الأوراق المالية للمستثمرين الدوليين يجعل التزام الدولة بالإصلاح وانفتاح الأعمال أمرٌ لا رجعةَ فيه، بل مؤشرٌ على الرغبة في المضي قدماً لمنح المستثمرين الأجانب الثقة والشفافية، مما يتعين أن يسير جنباً إلى جنب نحو تذليل العقبات أمام الاستثمار المحلي، فالجروح تبرأ وتلتئم من الداخل للخارج، وكذلك البناء الإصلاحي يبدأ أولاً من الداخل، ليعطي استدامة للخارج «Inside Out».
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال