الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مستشار قانوني
أوْردَ أبو بكر الزبيدي في مقدمةِ كتابهِ «طبقات النحويين واللغويّين» أنَّ أمير المؤمنين المستنصر بالله أمَرهُ بتأليف كتابٍ «يشتمل على ذكر من سَلفَ من النحويين واللغويين في صدر الإسلام إلى زمانه؛ ليكون ذلك شكرًا لجميل سعيهم، وحميد مقامهم؛ إذ كان ذلك من حقِّهم على مَن أَدَّوْا إليه علمَهم، وأعملوا في صلاحه جُهْدهم. وكان في تقييد أخبارهم، وتخليد مآثرهم، ما يُبقِي لهم لسانَ الصدق الذي هو بدل البقاء والخُلْد؛ وقد قال الله عز وجل حكايةً عن إبراهيم عليه وسلم: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}».
أورد الزركلي وغيره من المؤرخين جوانب من حياة مستشاري الملك عبدالعزيز رحمه الله، ومنهم: يوسف محمد ياسين ذلك السوري خريج الحقوق، الذي نَالَ ثقةَ الملك عبدالعزيز كوزيرٍ للدولة وشغل عدة مناصب، كما أنَّه أصدر جريدة أم القرى، وأيضًا موفق الألوسي، العراقي الذي كَسَبَ ثقة الملك عبدالعزيز، وعينه مستشاراً حقوقياً له 1933م، وأيضاً حافظ وهبة، المصري الذي يُعدُّ أحَدَ المستشارين المقربين للملك عبدالعزيز وممثلَ الدولة في مجلس إدارة شركة أرامكو، هذا بالإضافة لأصحاب الفضيلة القضاةِ والعلماء كالشيخ عبدالله عبداللطيف آل الشيخ، وعبدالله بن بليهد، وسعد بن عتيق، ومحمد بن إبراهيم. وقد صنَّف العلامة بكر أبو زيد كتابه «علماء الحنابلة من الإمام أحمد المتوفى سنة 241 إلى وفيات عام 1420» اقتصر فيه على كتب تراجم علماء الحنابلة وطبقاتهم المطبوعة، لكن هذا الكتاب يُصنف على غرار كتب الطبقات المذهبية التي تعد تخصصاً أدق في تأريخ علم التراجم لتطرقها لفوائد وتراجم مستوفاة على طريقة المحدِّثين والأدباء.
هناك فراغٌ في المكتبة الحقوقية السعودية من مصنف يضم أعلام الحقوقيين الذي أسسوا معالم الدولة السعودية الثالثة، والذين شيدوا بسواعدهم وإخلاصهم صرحاً عدلياً على غِرار مصنفات كتب الطبقات، وتراجم الأعلام أصحاب العلوم والفنون. مبادرة وسم #معجم_أعلام_الحقوقيين استلهمتها من الأخ العزيز المتألق د. أحمد الصقيه في إطارِ سعيه التفتيش في سير كبار المحامين لعرض تجاربهم الثرية. مبادرة المعجم محاولةٌ لرصد جهود أولئك الذين أسهموا في بناء الدولة الحديثة بمختلف أقطابها الثلاثة: القطاع العام بسلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية، والقطاع الخاص الذي يقوم على تقديم الخدمات الاستشارية سواء داخل المنشآت الخاصة أو بيوت الخبرة، ومؤسسات المجتمع المدني غير الربحية وكذلك مؤسسات الأبحاث والأكاديمية التي وضعت بصماتٍ حقوقيةً بارزةً كان لها أثر في رسم مستقبل البيئة العدلية السعودية العلمي والعملي.
مبادرة المعجم تؤكد على ثوابت وطنية راسخة، حيث إنَّ الدولة السعودية الحديثة استعانت بمن هم خارج الجزيرة العربية ومنحتهم الجنسية بعد سبروا إخلاصهم، وأصبحوا أحد مكونات المجتمع وبُنَاته، كما أنَّ لغة المعجم هي الانجاز الوطني الذي يذيب مفاهيم القبلية والمناطقية والمذهبية، ويؤسس مكانها مفاهيم العدالة والموضوعية، وهذه رسالة الحقوقي التي يحاول تحقيقها في عمله.
عندما يكون الإنجاز الوطني هو معيار الاختيار، فإننا أمام طريق يُوحد جدلاً يحاول البعض أن ينفخ فيه الروح كلما خنقته لغة الحقوق الواحدة. جدلٌ كلّف الدولة وتعليمها ومسيرتها الحقوقية فاتورةً باهظةً دفعتها كضريبة للفصام التشريعي «Schisophrenia of Legislation» بين خريجي الشريعة والقانون «الأنظمة».
إنَّ المقارنةَ والمفاضلةَ بين الشريعة والقانون تستميل الحمية الدينية لتَشل قدرتها على تقبل القانون فضلاً عن تفضيله، الذي يوصم والحالة هذه بالوضعي، ويحتدم الجدل عندما يُنسب للشارع فهذا شرع رباني وهذا شرع إنساني فأيهما أعدل وأحكم، بل يقودنا إلى أن تحكيم القوانين الوضعية هو حكم بغير ما أنزل الله. لكن هذا الطرح سرعان ما يتغير ويبدل عندما نقارن مدراس الفقه الإسلامي بمدارس الفقه اللاتيني أو الانجوسكوني في معالجتها لمفردات الحياة المدنية التي لا نص فيها يعارض الكتاب والسنة أو توافق اجتهاداً في مسألة ظنية كأسلوب مقارنة ضمن الدراسات القانونية المقارنة، فالقانون علمٌ اجتماعيٌّ يضمُ مجموعة قواعد عامة مجردة ملزمة تنظم العلاقات بين الأشخاص في المجتمع بغض النظر عن مصدر تلك القواعد أو أصولها.
إنَّ نظام الحكم في الدولة هو قانونها، وقانون السعودية منصوصٌ على مصادره في المادة السابعة من نظام الحكم الأساسي «يُستمد الحكم في المملكة العربية السعودية من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله. وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة». فالثابت أنَّ أغلب أنظمة السعودية تَتَقارب مع الفقه القانوني اللاتيني، ولا تزال نصوص «الفقه الإسلامي» تحكم القانون المدني والجزائي والأحوال الشخصية. وبالتالي فإنَّ أنظمة الدولة تدخل في مفهوم الشريعة العام من باب السياسة الشرعية، التي كشفت عنها مقولة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه «تُحدَث للناس أقضيةٌ بقدر ما أحدثوا من الفجور» إنَّ سنّ أنظمة وقوانين الدولة، هو ما سماه محمد رشيد رضا «بالاشتراع الإسلامي وهو ما عبر عَنهُ الفقهاء بالاستنباط والِاجتِهاد، وفي عرف هذا العَصر بالتشريع وهو وضع الأحكام التي تحتاج إِليها الحكومة؛ لإقامة العدل بَين النَّاس وَحفظ الأمن والنظام، وصيانة البلَاد، ومصالح الْأمة وسد ذرائع الفساد فِيهَا».
لم تعد محاولات المزايدة مقبولةً للتفضيل بين المتخصص في الفقه الإسلامي وبين المتخصص في سن الأنظمة الحديثة؛ لأنَّ الدولة تحتاج لكلا التخصصين معاً لبناء الدولة، فلا يمكن أن نعتمد على مجرد الموروث الفقهي ونهمل أنظمة الدولة الحديثة، وبالمقابل لا يمكن الاستغناء عن الفقه الإسلامي الذي يعد أساس استمداد التشريعات السعودية وجذورها، فالفقه كالقانون من علوم الآلة، وبذلك فهو آلة الشريعة وأداتها لتحقيق سياسة الدُّنيا بالدِّين، وضمان أنَّ التصرفات والسلوكيات، توافق قواعد الشريعة وأحكامها المنصوصة أو المستنبطة باجتهاد سليم.
إنَّ تعمق دراسة الفقه أورثت خريجها عمقاً فلسفياً وتأصيلاً، وتعمق دراسة القانون أورث خريجها عمقاً عَملياً وتفصيلاً، وبهذا يكون خريج الفقه كالصيدليِّ وخريج القانون كالطبيب، ومن المؤمل أنْ يشمل إصلاح التعليم إزالة هذا الفصام بمزاوجة بين التعليم الفقهي والقانوني والمتوج بمهارات التأهيل الحقوقي.
فإن قالوا «كونوا شرعيين أو قانونيين تهتدوا» فقولوا: بل حقوقيين وفقهاء وطنيين، فالكل يستهدف الشريعة تأصيلاً وتطبيقاً على مختلف مشاربهم. إنَّ مبادرة «معجم أعلام الحقوقيين» تنتظر من يرفع لوائها، ويتحف المكتبة العدلية برصد جهود أولئك الذين أسهموا في سيادة القانون السعودي في شتى مجالاته، سواءً ممن رَحَل إلى رحمة الله ومن لا يزال شاهداً على عصر الكفاح والبناء، فذكرهم يُوّثق فترةً ويستلهم عبرةً، وكما قال الشاعر الأول: فَأَثنُوا علينا لا أبا لأَبيكمُ … بإحساننا إنَّ الثَّناءَ هو الخلدُ!
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال