دائما نصر على إعادة اكتشاف العجلة في موضوع المراجعة الداخلية بالذات، ولا أعرف لماذا؟ نتحدث عن مفهوم المراجعة الداخلية وكأننا الدولة الأولى في العالم التي اكتشفتها وتطبقها. وفي كل موضوع آخر نبدأ دائما من حيث انتهى الآخرون إلا في المراجعة الداخلية نبدأ من حيث لا يوجد آخرون أصلا، علما بأن المراجعة الداخلية بدأت في العالم منذ الحرب العالمية الثانية وأنشئ المعهد الدولي للمراجعين الداخليين عام 1947، ثم تطورت المراجعة الداخلية من ذلك الحين، وهناك الآلاف من البحوث والدراسات وأوراق العمل والمؤتمرات والكتب في هذا الموضوع، كما تطورت أدوات المراجعة الداخلية كثيرا، وتنوعت بشكل لافت وتم تعديل تعريف المراجعة الداخلية ومقوماتها أكثر من مرة، واليوم هناك منظومة متكاملة من المعايير الدولية المستقرة وشهادات مهنية لها وزنها العالمي ولها قيمة عند كل منسوبي هذه المهنة الراقية. ولدينا الجمعية السعودية للمراجعين الداخليين التي أنشئت عام 2011 وهي عضو في المعهد الدولي للمراجعين الداخليين الذي يجتمع أعضاؤه كل عام في إحدى الدول لمناقشة مستجدات المهنة ودعم الأعضاء ودراسة المعايير، كل هذا النظام المتكامل المعترف به دوليا، وما زلنا مصرين على أن نرسم لنا طريقا في المراجعة الداخلية يختلف عن أي دولة من دول العالم، وأن نتجاهل كل هذه المنظومة العالمية.
لن أتحدث عن لائحة وحدات المراجعة الداخلية في القطاع الحكومي التي تجاهلت بشكل لافت – وبسبب غير واضح – كل المعايير الدولية، وعاملت المراجعة الداخلية كمعاملة مراجعة الحسابات في عدة قضايا، وتجاهلت الكينونة الخاصة لهذا التخصص وأنه مجال مختلف عن مراجعة الحسابات، ولن أتحدث عن الدليل الاسترشادي للمراجعة الداخلية الذي أعده ديوان المراقبة العامة الذي صبغه تماما بصبغته وأخل فيه بمعايير عديدة ليس أقلها معيار الاستقلال وهو يعد هذا الدليل بينما هو – كمؤسسة حكومية – خاضع لأعمال المراجعة الداخلية فكيف يعد معاييرها وأدلتها وهو خاضع لها، لن أتحدث عن مشكلة الاستقلال التي أوجدها الدليل واللائحة ولا عن تجاهلهما التام لدور الجمعية السعودية للمراجعين الداخليين التي ضمت كل المهنيين بعدد اقترب من ألفي عضو حتى الآن، وهي عضو رسمي في المعهد الدولي ونشأت بمرسوم ملكي، لن أتحدث عن تدخل الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين في أعمال المراجعة الداخلية وتقييمها وهي التي يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن هذه المهنة لأغراض الاستقلال المهني، لن أتحدث عن كل هذا وإصلاحه يحتاج إلى عمل جبار وصدق نيات فعلا ورغبة حقيقية في التغيير، لكن سوف أتحدث عن مشكلة تشكيل لجنة جديدة من جهات عدة لدراسة قياس أداء وحدات المراجعة الداخلية في المؤسسات الحكومية.
أكتب اليوم بعد أكثر من عام وأنا خارج عن إدارة الجمعية السعودية للمراجعين الداخليين لأؤكد أن المراجعة الداخلية مهنة عريقة ويجب أن تحترم بهذا الوضع، إذا لم نكن جادين في هذا الجانب فلا داعي لأن نخلط الأوراق، لا معنى أن يتم إنشاء جمعية بمرسوم ملكي لمهنة بعراقة المراجعة الداخلية ثم نتجاهل قواعد العمل وضرورة الاستقلال المهني الظاهري ويتدخل في أعمالها من يجب أن يكون خاضعا تماما لمراجعة المهنة، كيف نضع وزارة المالية في لجنة قياس الأداء هذه وكيف لهيئة المحاسبين القانونيين أن تتخلى عن مهنيتها ولا ترفض أن تكون عضوا في اللجنة، وإذا كان لوزارة التجارة باب من حيث إنها تشرف على المهن الحرة ككل فكيف نجد لديوان المراقبة العامة مبررا في هذه المشاركة والتدخل الذي لا ينتهي في أعمال الجمعية المهنية، ثم لماذا – فوق كل هذا – نظن أننا بحاجة إلى لجنة قياس الأداء، بينما هناك معايير واضحة ودقيقة جدا وضعها المعهد الدولي لمراجعة أداء إدارات المراجعة الداخلية في العالم ككل والجميع يعمل بها وينفذها، إلا إذا كنا نريد إعادة اكتشاف العجلة فعلا، وحتى لو أردنا ذلك فلماذا يعيد اكتشافها من ليس له هذه الصلاحية المهنية.
لقد كتبت هنا في الـ «اقتصادية» مقالات عدة عن المراجعة الداخلية وكنت أول من طالب بتعديل مفهوم العمل في ديوان المراقبة لأنه لم يعد يتماشى مع العلم الحديث، وناقشت مجلس الشورى في مقالات كثيرة لمفهوم المراجعة الداخلية واستقلالها وأنه لا خصوصية لنا في هذا الشأن، ولا أعتقد أن هذا المقال سيتجاوز حظ سابقيه، ولعل ديوان المراقبة العامة سيرد الآن باتهامي بعدم العلمية، فلا أحد يريد أن يقبل التغيرات الهائلة في علم المراجعة ودور المراجعة الداخلية وقدرتها على حل الكثير من المشاكل القائمة، ولا أحد يريد أن يغير قناعات قديمة راسخة لديه، ولا أحد يريد أن يقر بأنه لا خصوصية لنا في هذا الشأن، ومع ذلك فالجميع يتحدث بالحماس نفسه عن مكافحة الفساد ودور المراجعة الداخلية في ذلك. لقد طالبت هنا بدراسة نظام الرقابة الداخلية الحكومي بكل تعقيداته وكنت ممن كتب بشكل كثيف عن تضارب المهام والصلاحيات، وعلمت أن هناك دراسة وتم طلب دراسة أخرى، ومع ذلك فلا جديد في هذا الشأن سوى مزيد من الدراسات واللجان، بينما هناك جمعية مستقلة صدر نظامها بمرسوم ملكي ومدعومة من المعهد الدولي المتخصص في المراجعة الداخلية ولديها كل الأدوات المناسبة لعملها.
وعودة مرة أخرى إلى مسألة لجنة قياس أداء وحدات المراجعة الداخلية، لأؤكد من منظور مهني وعلمي بحت أنه لا حاجة إلى ذلك أبدا، فقط نحتاج إلى تكليف الجمعية السعودية للمراجعين الداخليين كي تبدأ مشروعا لمراقبة جودة أداء وحدات المراجعة الداخلية في المملكة وفقا للمعايير الدولية في هذا الشأن وبالتعاون مع المعهد الدولي – وهو المشروع الذي أعلم يقينا بأنه ضمن الخطة الاستراتيجية للجمعية. تجاوزت المساحة المقررة ولم تنته القضية، ولي عودة في مقال قادم بإذن الله.
نقلا عن الاقتصادية