الوقف مؤسسة المجتمع المدني الأولى

الأمين العام لـ مؤسسة سعفة القدوة الحسنة
لاح نجم مفهوم المجتمع المدني في سماء أوروبا في القرن السابع عشر إبان الحراك السياسي و الاجتماعي الذي شهدته المجتمعات الأوروبية آنذاك. و تناوله عدد من كتاب تلك الحقبة في مؤلفاتهم، و طوعوه لخدمة أفكارهم و رؤاهم – المتباينة – معولين على حداثة المفهوم ، و افتقاره – حينها – للتأطير و التنظير. غار ذلك النجم ( مفهوم المجتمع المدني ) لفترة طويلة، و عاد للسطوع على عديد المجتمعات الأوروبية أواخر القرن الماضي ، و زاد الاهتمام به تنظيرا و تأليفا و تبنيا ، فتطور و نضج ليشمل أغراضا اجتماعية و تنموية مختلفة، حتى أصبح شريكا أساسيا للحكومات في تطوير المجتمع ، وتنظيمه ، وتعزيز مشاركة أفراده في العملية التنموية الشاملة.
مفهوم المجتمع المدني من المفاهيم الدخيلة على الثقافة العربية الاسلامية ، و هو أحد المفاهيم التي استعصى على المهتمين بها من العرب ترجمتها بحسب المراد الأصلي منها ، و لعل ذلك يعزى إلى التباين الثقافي ، و الديني ، و الاجتماعي بين الحضارتين العربية الاسلامية و الاوروبية ، التي نشأ فيها مفهموم المجتمع المدني ، بالإضافة إلى إغفال الظرفية التاريخية التي نشأ و تطور فيها المفهوم و إخراجه من سياقها في محاولات تعريفه و تطبيقه. إلا أن الخطوط العريضة لمفهوم المجتمع المدني من حيث تنظيمه ، و حقوق و واجبات أفراده ، لها نظير – مع الفارق – في السياسية الشرعية في الدين الاسلامي ، كما أن ارتكاز مفهوم المجتمع المدني على المدنية – بعامة – له أصل في أدبيات علماء الاجتماع و التاريخ المسلمين كابن خلدون الذي ناقش المدنية في كتابه الأشهر المقدمة.
تتميز مؤسسات المجتمع المدني – بشكل عام – بالاستقلالية ، و التنظيم التلقائى ، و الطوعية ، و استهداف الخدمة الاجتماعية العامة، و هي ميزات تتشابه فيها مع المفهوم الاسلامي للوقف االذي يتميز كذلك بالاستقلالية إلا في بعض الحالات ، و القائم على التكافل ، و الرعاية الاجتماعية ، و حفظ كرامة الانسان دون تمييز عرقي أو ديني . إلا أن الوقف إختص بميزة استدامة الموارد الاقتصادية عن مؤسسات المجتمع المدني التي كان و لايزال استدامة مواردها المالية أبرز التحديات التي تواجهها.

قلما نجد اليوم في مجتمعنا منظمة مجتمع مدني – بمفهومها الشامل – إلا و تسعى لرصد أوقاف تضمن لها القيام بالدور المطلوب منها على أكمل وجه، و هي مزاوجة ناجحة بين مفهومين أصيل مرن ، و دخيل شذب ليتوائم معه، و تلك صورة من صور امكانية استيعاب ثقافتنا العربية الاسلامية للمفاهيم الكونية المستجدة.
أرى أن الوقف هو الحل الأنسب للنهوض بالمجتمع المدني لارتباطه الوثيق بالمكون الديني و الثقافي و التراثي للمجتمع. كما أن اختصاص الوقف بميزات فاقت المفهوم الحديث لمؤسسات المجتمع المدني ، إضافة إلى مرونته و قدرته على التكيف مع أهداف منظمات المجتمع المدني ، و احتضانه لها ، و ضمانه استقلالها المادي و استدامة مواردها ، و سابقته التاريخية و التشريعية، كل ذلك يجعل الوقف مؤسسة المجتمع المدني الأولى.