الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نملك من أجهزة الرقابة ما يكفي لمنع أي فساد وأي خطأ إداري يمكن أن يسبب إنحرافا في تطبيق الأنظمة المالية والإدارية ، ويمكن بواسطتها كشف ومحاسبة النملة على حبة القمح التي تأخذها من الغلال . فلدينا أربع جهات رقابية عامة هي ديوان المراقبة العامة الأقدم والأكثر فعالية من وجهة نظري ، وهيئة الرقابة والإدعاء العام ، والمباحث الإدارية التابع لوزارة الداخلية ، وأخيرا نزاهة الهيئة التي ملأت الدنيا ضجيجا عند ولادتها وكأنها ستأتي بما لم يأتي به الأوائل ، ومازالت تضج حتى الأن ولا نعرف لماذا؟ ليس ذلك فحسب ففي كل وزارة وهيئة ومؤسسة حكومية جهة خاصة بالرقابة الداخلية على أعمال تلك الجهة ماليا وإداريا .
مع ذلك كله فالفساد يكلفنا سنويا مليارات الريالات بإي شكل من الأشكال . سواء كان عن طريق إقرار مشاريع لاجدوى ولا حاجة لها ، أو تقييم المشاريع بأضعاف تكاليفها الحقيقية أو بالاقتطاع من قيمة المشروع ، أو بالتنفيذ الردئ جدا للمشاريع ، أو بتسليم المشاريع الضخمة لمقاولين من الباطن بدون خبرة ولا إمكانيات لتقليل التكاليف الفعلية وإقتطاع الفرق ، أو بالمشاريع التي لا وجود لها إلا على الورق فقط ، أو بالتوظيف الوهمي ، أو توظيف غير الكفاءات بإجور خيالية أو بأي صورة من صور الفساد التي لا يمكن حصرها هنا ، بل إن بعض الطرق لم يتم إكتشافها بعد ، فلدينا من عباقرة الفساد ما نفاخر بهم العالم . وقد قال أحد المديرين التنفيذيين الأمريكي الجنسية الذي كان يعمل لدي شركة سعودية “من لم يسرق في السعودية لن يسرق في مكان أخر” .
نعاني من الفساد المالي والإداري ما كلفنا أضافة قيمة التنمية في خمسين سنة عشرات المرات ، فإذا كان موظفا واحدا في إدارة فرعية لإحدى الوزارات قد اختلس 150 مليون ريال ، فعلى ذلك نقيس . رغم ذلك أطالب بإلغاء كافة الجهات الرقابية المالية والإدارية ولدي من الأسباب ما يجعلني أرفع صوتي بهذه المطالبة دون شعور بالحرج .
بداية من الواضح أن تلك الهيئات بكافة سلطاتها لا تستطيع تجاوز صغار الموظفين ، وهذا القصور الجوهري يضعف من أثر تلك الرقابة كثيرا بل قد يلغيها . لأن السلطة التي لا رقيب عليها تُفسد ، ولأن فساد الكبير كبير ، ولأن فساد الكبير يفسد من تحته وإن لم يكن فاسدا ، ولأن فساد من لا رقيب عليهم يضعف الرقيب في محاسبة الصغير الذي لا يصل فساد مجموعة من أمثاله عُشر فساد أحد الكبار .
ثم إن الجهات الرقابية جهات كاشفة للفساد بعد وقوعه ولا تملك السلطة والإمكانية المادية والبشرية لمنع الفساد قبل وقوعه وهو الأهم ، فإذا وقع البلاء فعلاجه صعب وملكف . وهذا العيب في النظام الرقابي سهّل كثيرا على الفاسدين فعل ما يريدون ، فلديهم من الوقت ما يكفي لتمرير ديناصورات قبل أن تبدأ الجهات الرقابية عملها . وما منصات غسيل الأموال من تجارة الإبل والماعز وبيض الدجاج وبطاقات سوا وغيرها من المنصات إلا شواهد على حجم ما يمر من الفساد قبل منعه بل حتى قبل كشفه ، هذا غير ما يخرج من البلد دون أن يدري به أحد . وفي هذا الجانب لا يوجد نظام (من أين لك هذا) ، والأصح لا يطبق النظام الموجود من زمن بعيد ، ما يعني أنه ما لم توجد قضية فساد يرفعها أحد الأشخاص أو الجهات فلن تتم ملاحقة من أثروا فجأة وبدون سبب واضح .
ثم جاءت الرؤية لتسحب مسؤوليات هذه الأجهزة الرقابية وتجعلها مجرد فزاعة للغربان التي لم تعد تخاف منذ زمن بعيد جدا . فنظام الحكومة الذي جاءت به الرؤية نقل الرقابة من الأجهزة الرقابية إلى ذلك النظام الذي يبدأ من الأجهزة التنفيذية وينتهي بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية وليس لأي من الأجهز الأربعة أي دور في تلك السلسلة ، ما يعني أنها أصبحت مجرد هياكل من الماضي . وقبل ذلك عملت كل القرارات التقشفية في تضييق مجالات الفساد ، لأن الإنفاق الحكومي اقتصر على الضروريات فقط ، فلا مشاريع جديدة والقديمة منها توقفت تقريبا ، والمناقصات الخاصة بمتطلبات الوزارات لم تعد تستطيع سد حاجتها الضرورية فضلا عن وجود ما يسرق، والتوظيف توقف والبدلات اختفت ، ما يعني أن لا ضرورة للرقابة أصلا .
ونحن نتقدم ببطء شديد جدا نحو تحقيق رؤية 2030 ، من أهم ما يميزها تحقيق هدف كفاءة الانفاق بحيث تكون عوائد المؤسسة الحكومية تفوق ما ينفق عليها أو توازيها بالحد الأدنى . دعونا ننظر لكل الهيئات الرقابية لدينا هل تحقق هذا الشرط ، هل ما تسترجعه تلك المؤسسات الرقابية يوازي الإنفاق عليها من كافة الجوانب ، أشك في ذلك كثيرا . فهي لا تستطيع كشف كل حالات الفساد حتى الكبيرة منها لأن لها حدودها الرقابية ، ولا تستطيع استرجاع كل ما تكتشفه لأنها لا تملك السلطة لذلك ، وهذا يعني أن تكاليف مكافحة الفساد بأشكاله تفوق كثيرا ما تسترجعه . وهذا يعني أن ترك ما بقي من فتات الفساد له أقل كلفة من الإنفاق على أربع جهات لمكافحته بدون جدوي بشهادة وزراء الثامنة .
وقبل أن أختم المقال ، أعتقد أن مكافحة الفساد المالي والإداري لا يعني أحدا وإلا ماذا يعني نموه كسرطان مع كل قانون جديد أو هيئة جديدة لمكافحته ، بل ماذا يعني أنه لم تتم عملية كشف فساد ذات قيمة واحدة مما نسمعه من الميارات ، ولم تتم محاكمة واحدة ذات دلالة غير محاكمات كارثة جدة التي لولا الوفيات لما تمت وحتى الأن لم تنتهي . فهل يعقل بعد هذا القبول بإن هناك من يهتم للفساد المالي والإداري ؟؟.
مكافحة الفساد لا تهم سوى المواطن المسكين المتضرر منه . ولو أن مكافحة الفساد تهم أحدا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من الحاجة لكل القرارات التقشفية التي امتدت إلى دخل المواطن لتحقيق رؤية 2030 التي كانت ضمن أهداف كل الخطط الخمسية العشر السابقة ولتحققت ضمنها .
لكل ما سبق أطالب وبقوة بإلغاء ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق والمباحث الإدارية والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة) ، وتحويل وظائفها لقطاعات أخرى بحاجة لها وأكثر فائدة وإنتاجية للوطن والمواطن .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال