الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تعمد الحكومات لضخ الميزانيات الضخمة وتأسيس البُنى التحتية وتطوير الأنظمة والقوانين لرفع حجم الإنتاج وزيادة الحصة السوقية العالمية من صادراتها. وهذه النتيجة لا تتم إلا بعد بذل جهود كبيرة، ولا تُقطف ثمارها إلا بعد فترة زمنية طويلة، وهذه هي دورة الحياة الطبيعية للمشاريع الضخمة.
التجارة الإلكترونية حديث الساعة في السعودية، وقد أخذت زخمًا عاليًا من المتابعة والتركيز، إلى حد أن حجم التجارة الإلكترونية في السعودية ارتفع من 2 مليار ريال شهريا حتى 52 مليار ريال شهريا في ظرف يومين فقط، بدون ضخ المزيد من الاستثمارات أو حتى سن قوانين جديدة. نعم، حدث ذلك خلال يومين فقط، ولكن لعله من الغني عن التعريف أنها كانت زيادة في الهواء وحبر على ورق فقط.
القصة بدأت عندما نشرت وكالة الأنباء السعودية (واس) خبرًا على موقعها الرسمي بعنوان: تقرير / الإقبال على التعاملات الإلكترونية يرفع حجم تجارتها المحلية لـ 2 مليار ريال الموافق 07 ديسمبر 2016 م. وقد نص الخبر ما يلي: “كشفت دراسات اقتصادية عن أن حجم التعاملات في سوق التجارة الإلكترونية بالمملكة وصل إلى 2 مليار ومائة مليون ريال شهريًا، أي (293 مليون دولار)” انتهى. وهذا أمر مقبول وطبيعي، فمن هذا الخبر نفهم أن حجم التجارة الإلكترونية في السعودية بلغ 2 مليار ريال شهريًا حسب هذه الدراسة الاقتصادية.
وفي يوم 9 ديسمبر 2016 نشرت واس خبرًا آخر على موقعها بعنوان: اقتصادي / السوق السعودي من أكبر الأسواق نمواً في التجارة الإلكترونية. وكان في الخبر الأول والخبر الثاني تفصيل لبيانات مدى والتي تُصدرها مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) شهريا كإفصاح عن حركة وحجم الأموال والإقتصاد السعودي. وفي تفاصيل الخبرين ما يلي: (وأوضحت بيانات الشبكة السعودية للمدفوعات “مدى” أن عام 2015م شهد تسجيل أكثر من 1.1 مليار عملية مالية بقيمة إجمالية فاقت 626.3 مليار ريال بمتوسط عمليات شهري يفوق 52 مليار ريال، من خلال أكثر من 17 ألف صراف آلي وما يزيد على 225 ألف جهاز نقاط بيع )
أشارت واس في الخبر الثاني حديثًا عن التجارة الإلكترونية دون ذكر رقم معين لحجمها في السعودية، وأوردت ما سبق الإشارة له عن حجم التعاملات في نظام مدى. فأخذت بعض الصحف السعودية والعربية الخبر الثاني وبدأت بالنشر أن حجم التجارة الإلكترونية في السعودية يبلغ 626 مليار ريال سنويا، وعنونها بعضهم بـ 52 مليار ريال شهري، وبعضهم تجاوز ذلك بدلاً من أن يقول أن متوسط العمليات الشهري 52 مليار، ليقول أن معدل نموها 52 مليار ريال شهريا. وهذا التغير من كلمة متوسط إلى نمو بمعدل يعني بدلاً من أن يكون حجم العمليات 52 مليار ريال شهري سيصبح حجم العمليات حسب وصفهم 52 مليار للشهر الأول و 104 مليار للشهر الثاني و 156 مليار ريال للشهر الثالث. وهكذا تأخذ بالزيادة الشهرية 52 مليار ريال وهذا تحوير خاطئ تمامًا للمعنى. وهكذا استطاعت السعودية خلال يومين أن تقفز بحجم تجارتها الإلكترونية من 2 مليار ريال إلى 52 مليار ريال دون أدنى مجهود.
الأمر لم يتوقف عند هذا، كيف أتى رقم 626 مليار ريال في عام 2015 من الأساس؟ والذي تم اعتباره علامة على حجم التجارة الإلكترونية؟ 626 مليار ريال تم الحصول عليها عن طريق مجموع المبالغ التي تم سحبها من الصرافات الآلية 434,6 مليار ريال، مضافًا إليها مجموع المبالغ التي تم دفعها عن طريق أجهزة نقاط البيع المنتشرة في الصيدليات والسوبرماركت الكبيرة وغيرها بقيمة 191,6 مليار ريال، لنحصل على المجموع 626.3 مليار ريال.
وكذلك تم حساب حجم العمليات عن طريق حساب عدد العمليات التي تمت عن طريق الصرافات الآلية، مضافًا لها عدد العمليات التي تمت عن طريق أجهزة نقاط البيع. أما المتوسط الشهري 52 مليار ريال فتم الحصول عليه بقسمة 626 مليار على عدد أشهر السنة.
وسيختلف ويتفق بعضهم على مفهوم وتعريف التجارة الإلكترونية وما تشمله وما لا تشمله من تعاملات. لكن أليس من حق القارئ أن يتم الإيضاح له أن المبلغ الذي يُروج له 626 مليار ريال ما هو إلا عبارة عن مبالغ تم سحبها من صراف آلي و مبالغ تم دفعها عن طريق جهاز نقاط البيع؟ وبعبارة أخرى هل يمكن اعتبار أن العميل الذي يذهب للصيدلية ويدفع عن طريق البطاقة بجهاز نقاط البيع أنه يقوم بعملية تُصنف كعملية تجارة إلكترونية؟ وفي ذات الصيدلية وذات الكاشير عميل آخر يدفع باستخدام الورق النقدي تعتبر عملية تجارة تقليدية؟ وهل يُمكن اعتبار أن سحبك لمبلغ مالي من الصراف الآلي عبارة عن عملية تجارة إلكترونية؟
وفي حال التجاوز عن هذه النقاط أليس من الأجدر أن يتم إدراج المبالغ المالية التي تمت عن طريق نظام سداد؟ حيث أن مجموع المبالغ المالية التي تمت عبر هذا النظام خلال عام 2015م 210 مليار ريال، ومقارنة ما بين نظام سداد وأجهزة نقاط البيع فإن نظام سداد أقرب بكثير لوصف التجارة الإلكترونية من أجهزة نقاط البيع، حيث أن نظام سداد يشمل الفواتير المدفوعة، والتي بشكل أو بآخر يمكن اعتبارها تجاوزصا شكلاً من أشكال التجارة الإلكترونية.
وبعيدًا عن متاهات الوصف والتوصيف لمفهوم التجارة الإلكترونية وحجمها في السعودية، تبقى المشكلة المتكررة في بعض الصُحف السعودية وهي عدم دقة الأخبار ونقلها بطريقة مغايرة لمصدر الخبر. ولن نخوض في نيات الآخرين ونشكك فيهم، فالجميع فوق الشك، ولكن العتاب هنا عتاب الزميل لزملائه في المجال ذاته.
السبق الصحفي لم يعد ذا أهمية كما كان الوضع قبل أكثر من عقد من الزمان حيث لا وجود للانترنت ولا مجموعات ضخمة من وسائل التواصل الإجتماعي. الوضع الحالي يتطلب دقة الخبر أكثر بكثير من سُرعته، فربما كانت كاميرا سناب شات أو تغريدة أو لقطة في إنستغرام أسرع من طلقة الرصاص، ولن تستطيع مجاراة المباشرين للحالة في الشارع من المواطنين والمقيمين، فالكل يحمل هاتفه ويغرد ويصور ويوثق، ومن الصعب أن تغلبهم بالسرعة. لكنك تتفوق عليهم بتخصصك ودقتك بالمعلومة وفحصها حتى تكون مصدرًا موثوقًا للخبر.
سوء الفهم والأخطاء البشرية غير المقصودة طبيعة في العمل الفردي والجماعي، وتصحيحها لا يُنقص من مكانة الشخص أو يحط من قُدرته على الاستمرار في تأدية عمله في المستقبل. نحتاج إلى رفع مستوى النقد بيننا ورفع جودة المخرجات في الصحافة السعودية، فالقارئ على قدر عالٍ من الوعي، وأصبح يتطلع إلى جودة عالية من المخرجات الصحفية تُلبي تطلعاته. فهل نعتب الآن على المسؤولين البارزين لدينا عندما مرروا أخبارًا جوهرية عن السعودية في الفترة الماضية لوكالات الأنباء العالمية، فكانت هي مصدر الخبر الرئيس بدلاً من أن تصدره إحدى صُحفنا المحلية؟
فإذا كان خبرًا باللغة العربية من وكالة الأنباء السعودية ويتم فهم محتواه ونقله بهذه الصورة، فكيف يُمكن أن يكون الحال لو أُوكل لبعضهم أن يكون المصدر الرئيسي للخبر؟ ونحن على أعتاب التحول الوطني نُريد سُلطة الصحافة السعودية لا سَلَطة الصحافة السعودية تُضرب فيها المعلومات وتتداخل فيما بينها فلا تتبين الصحيح من الخاطئ.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال