الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قال الله تعالى ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾، القضاءُ من صلاحيات الولاية العامّة؛ لذا قضت المادة «44» من النظام الأساسي للحكم أنَّه يتربع على رأس سلطات الدولة. عرَّف السادة الحنابلة القضاء بأنه عملية «فصل الخصومات وقطع المنازعات على وجه الخصوص»، وهو حقٌ كفله النظام الأساسي للحكم بالتساوي للمواطنين والمقيمين في المملكة، وأحالت المادة «47» من النظام على النظام الذي يبين الإجراءات اللازمة لتنظيم هذا الحق. ولما استلزمت إقامة هذا الحقّ وجود خدمات تساندُه اعتنت الدولة السعودية منذ عصر مؤسسها الملك عبدالعزيز –رحمه الله- بتوفير الخدمات المساندة حيث قال «فإذا أصلحنا المحاكم هانت الأمور واستقامت الأحوال». ولما كان القضاء سلطةً عامةً، كان على كاهل الدولة إتاحته للعموم؛ لذا كانت أحد مبادئ العدالة الحديثة «مجانية التقاضي» والتي ترتكز على ثلاثة محاور:
الأول: أن تتكفل الدولة برواتب القضاة، حيث أصلَّ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين أعطى الصحابي عتاب بن أُسيد رضي الله عنه أربعين أوقية في السنة عندما عيَّنه على مكة قاضيًا. وتوالى نهج خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، فقد رتَّب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما ستة آلاف درهم راتبًا سنويًا لتوليه القضاء بالبصرة. وسار أئمة الإسلام على هذا النهج بل أبعد منه، بأن يُعطى للمتظلم الذي ثبت أن أحد الولاة قد ظلمه نفقةَ سفره إلى مجلس القضاء، كما فعل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وأُثر عن الخليفة العباسي المأمون قوله: «من تظلم إليَّ فعليَّ انصافه ونفقته جائيًا وراجعًا».
الثاني: أن المجانية حقٌ حصريٌ لصاحب الحقِّ فقط دون الطرف الآخر مغتصب الحقِ أو منكره أو المماطل الذين لا يحق لهم أن يثروا على حساب الدولة، فأطراف الخصومة ليسوا على مركزٍ واحدٍ بحيث يتمتعوا بمجانية التقاضي المرتبطة بمبدأ «اقتصاديات إدارة العدالة»، التي تُعيد هيكلة حماية الحقوق في المجتمع، وتردع مغتصبي الحقوق من المماطلة والتسويف، وتمنعهم من التمتع بمجانية الدعم الحكومي، فضلاً على أنَّه يُشجع ضعاف النفوس على إشغال المحاكم بما يمكن حَلّه خارج أروقتها. إنَّ ميزان العدالة المجتمعية يتمحور في أداء الحق لأصحابها، وتمكين الدولة من تمويل التنمية المستدامة دون استنزافها كيداً ومماطلةً.
الثالث: أن القضاء كسلطةِ فصلٍ لا تشمل ما تقتضيه الخصومة من نفقات وتبعات، ذلك أنَّ الدولة تنوءُ بأعباءٍ كثيرةٍ تحول دون تحملها بكافة أعباء نفقات العدالة خاصة في الأزمات المالية، ويشهد لهذا أن نفقات الخبرة والمعاينة أو المحاسبة مما يُعرف بمصاريف الدعوى أو المصاريف القضائية يتحملها الأطراف، ويلحق بهذا أضرار التقاضي أو الأضرار الناتجة عن الإجراء التحفظي أو تعويض من أصابه كيد أو نفقات تكبدها لقاء إقامته لدعواه، ومنها نفقات المحاماة، وكلها لا تخدش مبدأ مجانية القضاء؛ لكونها نفقات موجهة لخدمات ملحقة تتعلق بالقضاء الذي توفره الدولة. فهناك فرقٌ بين أداء القاضي ونفقات تشغيل المحكمة.
من جهة أخرى، فإنَّ فرض نفقاتٍ محددةٍ تُؤخذ من الجمهور لتوفير بعض الخدمات التي تساند المحاكم يُعد من قبيل «الكُلف السلطانية» كما اصطلح عليها الحنابلة، والتي تُسمى حالياً بالرسوم القضائية «Court costs» or«law-costs»، وقد تواتر العمل في كثير من دول العمل على فرضها. وشدَدَّ تقرير البرلمان البريطاني في مشروع اصلاح الرسوم القضائية على أنَّ «من الأهمية بمكان أن المحاكم تمُول بشكل صحيح إذا أُريد لها أن تستمر لتوفير الوصول إلى العدالة، وتُسهم في التطوير المستمر لخدمة المحكمة لتكون أكثر كفاءةً وحداثةً. فتمويلُ المحاكم الكافي يعني توفير خدماتٍ أفضل لدعم أفراد السلطة القضائية الذين تتكفل برواتبهم الدولة. وفي نفس الوقت، جعلت الحكومة خفض العجز المالي على رأس الأولويات، من أجل وضع الاقتصاد على مسار النمو. والتزمت وزارة العدل للحد من ميزانيتها بأكثر من الثلث، لذا تعتقد الحكومة أن من الأفضل أنَّ أولئك الذين يستطيعون دفع الرسوم ينبغي عليهم أن يسهموا في تكاليف المحاكم». لذا فإن أغلب الدول التي تسن قانون للرسوم القضائية تُخصّصُ مواداً في ذلك القانون تعالج حالات العجز عن دفعها، وحالات أخرى للإعفاء منها بما يُسمى «بالمساعدة القضائية».
إذا كان هدف القضاء الفصل في النزاعات، فإن توفير خدمات مساندة للمحاكم مجانيةً ذات كفاءة منخفضة تعني «عدالةً رخيصةً» يستغلها المماطل والظالم، وتجبر المجتمع على تجاوز قنوات أخرى لحل النزاع لتكون المحاكم المحطة الأولى للفصل في كل صغيرة وكبيرة، وتُعطل جدوى وسائل تسوية المنازعات البديلة إذْ لا حاجة لها طالما كانت بوابةُ القضاء متاحةً بلا تكاليف لكل من طرقها. ومع تسارع الحياة المدنية فَقَدَ المجتمع تلك اللمسات الحانية التي تجمع شمل المتنازعين، فكان لكبير العائلة «رجلا أو امرأة»، ولإمام الحي، ورئيس القبيلة، وعمدة الحي، ومأمور الشرطة ونحوهم دورٌ جوهريٌ في الإصلاح، وردع الظالم، ونصرة المظلوم، بعيداً عن أروقة القضاء، فلما ضعفت العلاقات وطغت المادية اُستُحدث للناس بقدر تجاوزهم أقضيةً تُلزمهم بمساندة خدمات المحاكم بالنفقات التي ترفع مستوى أدائها، وتُصحح مسار اقتصاديات العدالة في المجتمع وتملس خيارات وبدائل عن المحاكم كالتسوية والمصالحة والتحكيم، وتوخي الاستشارة القانونية قبل التصرف، وهنا يبرز دور المحاماة الوقائية وثقافة الالتزام «Compliance».
في يناير 2016م تسببت الرسوم القضائية في إلحاق خسائر ببنك دويتشه الألماني؛ نتيجة رسوم سلسلة من إجراءات التقاضي ورفع الدعاوى، فكان الجزء الأكبر من الرسوم «1.2 مليار يورو» يتعلق بإجراءات التقاضي التي أجبرتهم على عمليات تسوية ودراسة الموقف قانونياً قبل التقدم للمحاكم، بل إنَّ البنك أدرك عامل الوقت في المحاكم في إسراع الانتهاء من المحاكمات حتى علّق أحد كبار التنفيذيين في البنك «تلك الجهود ستساعدنا أيضاً على خفض المخاطر؛ لنكون على استعداد لحسم الأمور التنظيمية وإجراءات التقاضي القائمة في أسرع وقت ممكن».
في مطلع فبراير من هذا العام، أطلقت الدولة ضمن مبادرات رؤية 2030 «برنامج حساب المواطن» الذي يُوجه الدعم الحكومي كأحد دعائم التحول الاقتصادي عبر إعادة توجيه المنافع الحكومية. كما أن برامج الرؤية مصممةٌ للتحول من الرعوية إلى التنموية، وتحول ركائز التشغيل الحكومي للقطاع الخاص؛ لتحقيق التوازن المالي حيث ستعتمد الجهات الحكومية على 3 ركائز لإيجاد فرصٍ مبنيةٍ على أفضل الممارسات التشغيلية، وتحسين جدوى الخدمة المقدمة، وتقنين الاستهلاك، وتعظيم المنافع، وتحسين الانفاق. وباستعراض أوليٍّ لتكاليف تشغيل محكمةٍ مكونةٍ من 3 قضاة و9 إداريين و4 أفراد عسكريين في مبنىً مستأجر، فإن التكاليف الشهرية باستثناء رواتب القضاة لا تقل عن 700 ألف ريال مضافاً إليها تكاليف البنية التقنية والإدارية. في حين أنَّ تلك المحكمة تستقبل مالا يقل عن 4000 طلب شهرياً ما بين لائحة دعوى، وطلب خبير، وسماع شهود، وطلب موعد، وطباعة حكم إلى غير ذلك. ولو قُدر أن رسماً رمزياً فُرض على كل طلب؛ لأسهم ذلك في الرقي بخدمات تلك المحكمة، وتوفير ما لا يقل عن 25% من تلك النفقات. حيث أظهر تقرير المفوضية الأوروبية أن متوسط مساهمة الرسوم القضائية في الميزانية التشغيلية للمحاكم الأوروبية بلغ 26,4%، وحققت النمسا في 2010م تغطية لميزانية المحاكم بنسبة 109,8%.
إنِّ اسناد خدمات التقاضي المساندة للقطاع الخاص أصبح واقعَ كثيرٍ من الدول بما يُعرف بـــــ «خصخصة خدمات المحاكم». ففي محاكم ولاية فلوريدا الأمريكية أصبح استخدام الموارد أكثر فعالية، لسعيهم الدؤوب لطرقٍ مبتكرةٍ لاستخدام التكنولوجيا، واتخاذ خطوات أخرى؛ لتحقيق قدرٍ أكبرَ من الكفاءة وتحسين الأداء، إذْ يمثل نظام المحاكم في ولاية فلوريدا أقل من 1٪ من إجمالي ميزانية الدولة. وتُولد رسوم محاكم ولاية فلوريدا تقريباً مليار دولار سنوياً، وهو ما يزيد على ما هو مطلوب لدعم عمليات المحكمة التشغيلية، والذي يُخصص للصندوق الوقفي أو الاستئماني «Trust Fund» لإيرادات محاكم الدولة.
إنِّ العدالة الرخيصة لا تغري المماطلين فحسب، بل إنها تجثم على أيِّ مبادرة تنموية أو دماء استثمارية تُضخ في الاقتصاد، ولابد من تفعيل دور مساهمة المجتمع لدعم المحاكم للقيام بدورها وتوفير خدمات مساندة للقضاء كخدمات التبليغ والتنفيذ، والخبرة، والاستعلام، والأعمال المكتبية والإجراءات الإنهائية؛ والتي تهيئ بيئةً مناسبةً لرفع إنجاز القاضي الذي يأتي لقاعة المحكمة وقد خُدمت القضية، وأُعدت له على نحو يجعله يتفرغ لإقامة ميزان العدالة مع فريقٍ ذي كفاءةٍ عاليةٍ، وخدمات مساندة، تُبنى على أساس فلسفة خدمة العملاء وليس على فلسفة المدرسة الكلاسيكية التقليدية التي أصبحت عبئًا على تقدم مسيرة التنمية. ولا مقارنة بين خدمات قضائية مجانية تقليدية أو خدمات عصرية ناجزة برسوم؛ لأن عنصر الوقت والكفاءة أساسٌ في إدارة العدالة «Time Value For Money».
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال