الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لعل الكثير لم يكن قد سمع بمصطلح الإفلاس الاقتصادي، وإن سمع به ففي الغالب أن يتبادر إلى ذهنه الإفلاس الذي نعرفه، وحقيقة بحثت عن معنى له أو تفسيرا واضحا لمدلوله، فوجدت استخدامه يُشير من خلال السياق إلى الإفلاس المتعارف عليه وهو الإفلاس المالي، والذي يُقصد به العجز عن الوفاء بالالتزامات المالية وسداد الديون، ولعل هذا المقال بإذن الله يكون بابا في توضيح ذلك.
لقد شاهدت كغيري مؤخرا مقطعا لوزير المالية الاستاذ محمد الجدعان يجيب فيه عن سؤال لأحد الحاضرين في اللقاء الذي جمع معاليه ووزير التجارة الدكتور ماجد القصيبي مع رجال وسيدات الأعمال بالمنطقة الشرقية، حول الإفلاس، وصرح معاليه ردا على سؤال احد الحضور حول أزمة مستشفى سعد في الشرقية وعدم البت فيه “أنه سيكون هناك رجال أعمال سيتعرضون لخسائر، ليس بسبب الحكومة، وإنما بسبب الوضع الاقتصادي بشكل عام، فالدورة الاقتصادية يجب أن تقبل” ، ثم ذكر معاليه مستشهدا بما حدث ويحدث في دول العالم من حالات افلاس حدثت لكبرى البنوك والشركات، في المقابل ظهور بنوك وشركات أخرى، وأضاف أن أكثر سؤال يوجه للمحامين من المستثمرين الأجانب يتعلق بإجراءات الإفلاس في المملكة، مبينا أنه لا يوجد لدينا إجراءات تتعلق بذلك وعلق معاليه بقوله “عيب الواحد عندنا يفلس”.
وبلا شك أن مثل هذا التصريح من معاليه كان في وقت عصيب يمر به الاقتصاد السعودي، بكافة قطاعاته، وهذا ما جعل تصريح معاليه مصدر إزعاج وقلق للمستثمرين ورجال الأعمال، وإن كان الإفلاس أمرا معيبا أو مستبعدا، فتلك سنة إلهية، وقد ورد في صحيح البخاري حديثا رواه أبو هريرة رضي الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره”، وهذا دليل على أن الإفلاس، ولكن السؤال الذي يجب أن نُجيب عليه حتى نميز بين حالات الإفلاس التي حدثت أو قد تحدث، وسبب حدوث الإفلاس.
ذكر معاليه في معرض كلامه الدورات الاقتصادية، وهنا نتساءل ما هي الدورات الاقتصادية، وأسباب حدوثها، ومن خلال ذلك قد نصل لما استطيع أن أطلق عليه الإفلاس الاقتصادي والذي هو أعم من الإفلاس بمعناه العام والذي يُقصد به الإفلاس المالي.
الدورة الاقتصادية أو دورة الأعمال (Business Cycle) بشكل مبسط هي تقلبات تحدث في النشاط الاقتصادي الكلي،دأي أن تلك التقلبات تحدث وتؤثر في متغيرات الاقتصاد الكلي كالإنفاق الاستهلاكي والإنفاق الحكومي، والإنفاق الاستثماري والبطالة والتضخم، وعرض النقود، وغيرها، وتمر هذ الدورة بمراحل تبدأ من التوسع (Expansion) وهو الزيادة في مستوى النشاط الاقتصادي، ثم تليها مرحلة الطفرة أو القمة (Peak or Boom).
وتتميز هذه المرحلة بتزايد أغلب متغيرات الاقتصاد الكلي كارتفاع دخول الأفراد وزيادة الاستهلاك وارتفاع الأسعار (التضخم) وزيادة حجم الإنتاج، وارتفاع مستوى التوظف وانخفاض البطالة، ثم مرحلة الركود (Recession) وتتسم هذه المرحلة بتراجع المتغيرات الكلية كالاستهلاك وتراجع الأسعار(الانكماش) وانخفاض الإنتاج وانخفاض مستوى التوظف وارتفاع معدل البطالة، ثم مرحلة الكساد (Depression) ويطلق عليها القاع (Trough)، وهي أشد مراحل الدورات الاقتصادية أثرا إذا أنها تتميز بالانخفاض الأسعار وتزايد معدلات البطالة بشكل كبير، وزيادة المخزون السلعي، مما يصعب على التجار تصريف ما لديهم، وظهور حالات الإفلاس في الشركات والأفراد نتيجة العجز عن الوفاء بالالتزامات المالية وسداد الديون، وتتعرض المصارف للضغوطنتيجة زيادة مخصصات خسائر القروض، نتيجة لعجز المقترضين عن السداد.
وهنا نتساءل هل الدورة الاقتصادية التي نمر بها تُعتبر دورة حقيقية بالمعنى الاقتصادي، أم أننا نمر بما يمكن أن أطلق عليه دورة الاختلالات الخفية، إذ أننا مع ارتفاع أسعار النفط وزيادة الإنفاق الحكومي تبدأ تلك الاختلالات التي يعاني منها اقتصادنا بالتخفي وتمر في مرحلة خمول تستمر على ذلك الحال، طالما ازداد الإنفاق حتى يصل النشاط الاقتصادي للقمة، ومع بوادر التراجع تبدأ تلك الاختلالات في استعادة نشاطها والظهور وتزداد لتصل إلى ذروتها عندما يكون الاقتصاد في وضع القاع، وكأن تلك الاختلالات أشبه بالفايروس الذي يكون خاملا وينشط بمجرد الشعور بالمرض.
إن مرحلة التوسع والانتعاش التي مر بها اقتصادنا المحلي كان نتيجة لارتفاع أسعار النفط في الفترة الماضية، والذي تزامن مع الانخفاض الحاد في مؤشر الدولار، وهذا الارتفاع في أسعار النفط مكن الحكومة من تحقيق فوائض مالية ضخمة ساعدها على خفض الدين العام بشكل كبير، وأدى لمزيد من الإنفاق الحكومي من خلال دعم بعض السلع الأساسية، وزيادة أجور العاملين في القطاع الحكومي بغية تحفيف تكاليف المعيشة نتيجة لارتفاع تكاليف السلع المستوردة، مما دفع بشهية رجال الأعمال والمستثمرين لزيادة إنفاقهم والتوسع في مشاريعهم الاستثمارية، ساعد على ذلك انخفاض تكاليف الإقراض، وتوقعاتهم -غير الرشيدة- للأسف حول أسعار النفط مستقبلا وانعكاساتها على الوضع الاقتصادي الداخلي، بل البعض استبعد تراجع الأسعار لهذا المستوى.
وانخداع الكثير منهم لما يردده بعض المحللين حول استعادة أسعار النفط عافيتها، نتيجة للطلب المتزايد على الطاقة، وبجرد أن تراجعت أسعار النفط والتي حملت في طياتها تهديدا للاقتصاديات النفطية، بمشاكل اقتصادية، كان أولى أحداثها انخفض الانفاق الحكومي، وإقرار رفع الدعم عن بعض السلع، والمزيد من الرسوم والضرائب بهدف تخفيف العجز في مالية الدولة، إضافة لرفع أسعار الطاقة.
وسرعان ما بدأت متغيرات الاقتصاد الكلي كالإنفاق بأنواعه الاستهلاكي والاستثماري ومستوى التوظف والبطالة تسير في اتجاه أسعار النفط، وهنا نجد أن مرحلة التوسع أو الانتعاش التي مر بها اقتصادنا لم تكن مرحلة نمو حقيقية، كما هو معتقد، وقد تطرقت لذلك في مقال لي سابق بعنوان الحد الفاصل بين التضخم والركود في اقتصادنا.. حقيقة أم وهم، بينت من خلاله أننا لم نحقق نمو فعليا بمعناه الاقتصادي، بالإمكان الرجوع إليه.
ومن دون شك أن غياب الرؤية الاقتصادية لدى الشركات والمستثمرين حول الهيكل الاقتصادي للاقتصاديات الريعية، وطبيعة الأسواق والأثر الذي تُحدثه أسعار الطاقة، والتشابك الكبير والمعقد للاقتصاد العالمي، إضافة للتوسع غير المدروس، وإدراك تلك الشركات لطبيعة منتجاتها، والأسواق التي تُسوق فيه تلك المنتجات، وحجم الطلب عليها وتأثره بالدخول، إضافة لمدى مرونة الطلب عليها، وإدارتها لتكليفها، والموازنة بين التكليف المتغيرة والثابتة، وفهم الوضع الاقتصادي، وإدراك تأثير الصدمات الاقتصادية، وحجم تأثيرها، هي ما يُسمى بالإفلاس الاقتصادي.
ولا يعني من ذلك خروج بعض الشركات من دائرة الخطر نتيجة لطبيعة السوق التي تعمل فيه، كأن تكون سوقا احتكارية، أو أنها تمتلك امتيازا في منتج أو خدمة معينة، أنها في معزل عن ذلك، لذا يتحتم على الشركات تبني استراتيجية تُعنى بدراسة الأداء سواء للاقتصاد ككل أو للمنشأة من الناحية الاقتصادية، وإعداد وكتابة التقارير، ومعرفة العوامل المؤثرة على أنشطتها، مما يساعد على التنبؤ أو إعطاء صورة أكثر وضوحا عن الوضع المستقبلي تفاديا لحدوث الأزمات والمشاكل التي قد تتعرض لها المنشأة، أو حتى التخفيف من آثارها، ويبقى الإفلاس الاقتصادي كفيل بالوصول إلى مرحلة الإفلاس المالي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال