الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
رغم كل الضجة التي أحدثتها العملات الناشئة حديثا إلا أنها ما زالت غامضة للكثيرين وحتى لبعض المتخصصين في المالية والاقتصاد. الضجة المتصاعدة هي بكل تأكيد نتيجة للأسعار المرتفعة وغير المتوقعة التي تستمر تلك العملات في تسجيلها مؤخرا. أما الغموض فسببه أن العملات الجديدة قائمة على أنظمة وبرامج تقنية متطورة جدا ومعقدة فلا يسهل على غير المتخصص فهم طبيعة عملها وأبعادها وتأثيرها.
من المهم قبل مناقشة تأثير تلك العملات توضيح معناها والتفريق بينها وبين أشياء أخرى تتعلق بأنظمة الدفع الالكتروني. فتلك الأنظمة ليست حديثة بل مستخدمة ورائجة وفي تطور مستمر. الاختلاف الأول الذي طرأ على العملات وأساليب الدفع سابقا هو الاستغناء عن النقد والأوراق والتحويلات المصرفية من خلال بطاقات الدفع ومن ثم عبر منصات تنفيذ عمليات الدفع مثل Paypal و مئات المنصات المشابهة وكلها خارج منظومة البنوك التقليدية.
نشأت أيضا عملات الكترونية تصدرها جهة أو مؤسسة ما للاستخدام حصرا على منصتها الخاصة مقابل الخدمات التي تقدمها تلك الجهة وهذا النوع مستخدم من بعض الحكومات لإنجاز المعاملات. كل ما تقدم يشكل أنظمة مركزية تحت السيطرة، أما الاختراق الجديد في هذا المجال فهو ظهور العملات المشفرة وأشهرها البيتكوين.
الاختلاف الجذري والذي كان سببا في سرعة انتشار العملات المشفرة هو أنها ليست مركزية ومفتوحة أي لا تتحكم بها أي جهة سواء كانت حكومية أو خاصة. التفاصيل التقنية معقدة جدا ولا أدعي أني ملم بها، لكن تقوم تلك العملات على مبدأ التنقيب الالكتروني للحصول عليها أي أنها تشبه المعادن أكثر من العملات الورقية التي يتم إصدارها من قبل البنوك المركزية.
ويتم التنقيب عبر حل شفرات معقدة موضوعة من خلال البرامج المشغلة والتي من المهم جدا معرفة أنها كلها برمجيات ذات مصدر مفتوح open-source متاحة للجميع فلا يمكن لطرف واحد التحكم بها أو تغييرها دون الاخرين. قيمة العملات المشفرة تأتي من العرض والطلب وبسبب محدوديتها فإن أسعارها ارتفعت بشكل كبير.
ويمكن لأي شخص أن يقوم بعمليات التنقيب عبر استخدام أجهزة كومبيوتر لحل تلك الشفرات. وتحدد البرمجة المذكورة عدد العملات التي يمكن لها أن تكتشف ويتناقص ذلك العدد كل 4 سنوات إلى أن تظهر كل وحدات العملة (21 مليون في حالة البيتكوين) ولا يمكن بعدها ظهور المزيد منها. لا بد هنا من الإشارة ألى أن التذبذب الكبير جدا في سعرها حولها فورا إلى أداة مضاربة لكن التركيز على هذا الجزء فقط يعني تجاهل كل الخصائص المهمة والأثر الكبير لها. كل العملات والسلع تستخدم في المضاربة وليست العملات المشفرة فقط.
هل يمكن الوثوق تماما بتلك البرمجيات وضمان عدم تغيرها؟ لا أعرف الجواب ولكن التطور التقني المذهل والذي لا يتوقف يجعل من تلك التغيرات أمورا غير مستغربة. اذا نظرنا للتطورات التقنية من هذا النوع بدون الغوص في تفاصيلها وقارنا عملها بطريقة عمل العملات الورقية التقليدية فإننا بدون شك لن نتقبلها وسنتوقع زوالها وبأنها فقاعة أو موضة ستتوقف بعد أن تطير الطيور بأرزاقها ويخسر الكثر من الناس أموالهم.
إن هذا التطور برأيي يشكل ثورة في عالم المال والاقتصاد مع أنها ما زالت في بدايتها. النظرة الواقعية لها هي أنها تشكل منظومة مختلفة ومستقلة عن الأنظمة المصرفية التقليدية التابعة للبنوك والمصارف المركزية ولا يعني هذا أنها بالضرورة ستحل محل العملات التقليدية وتلغيها. الواقعية التي أقصدها أنها ستفتح مجالات الائتمان والضمان والاقتراض والاستثمار كما لم يحصل سابقا. من المستحيل تقريبا في الوضع الحالي القيام بعمليات مالية خارج الأنظمة المصرفية وهو ما يشكل الإطار العام الذي تستخدمه الحكومات والبنوك المركزية لضبط الاقتصاد. أما بالتطورات التقنية المستمرة فإن ذلك سيكون ممكنا وسهلا وهو ما يجب أن يشكل قلقا للبنوك وللذين يديرون الاقتصاد في كل مكان.
الحكومات والبنوك وأجهزة الرقابة يمكنها أن تعارض انتشار العملات المشفرة وتحاول منعها لكنها تقنيا لا يمكنها فعل ذلك. مرة أخرى نكرر أن التفكير بالعقلية القديمة غير التقنية لن يؤدي إلى نتيجة. التقنية بشكل عام أصبحت أبعد من أن يتمكن أي قرار من الوقوف أمامها أو إلغائها.
من الناحية القانونية، تتيح تلك التقنيات المجال لتبادل الدفعات بشكل سهل مما يقلل من القدرة على ضبط العمليات غير القانونية والإجرامية وبيتطلب بالتأكيد تطوير التقنية المستخدمة في الرقابة. أما رفض التقنية بحجة أنها غير قانونية وعدم التعامل معها فهو تسطيح للموضع لأن التعامل بتلك العملات لا يتطلب اذنا من أحد.
من الصعب حاليا توقع شكل النظام المالي مستقبلا مع وجود تلك التطورات التقنية لكن يجب أن لا نأخذها باستخفاف أبدا. العملات المشفرة بعبع مالي واقتصادي قادم لا يمكن توقع أبعاده فالتطور التقني لا حدود له وأعتقد أن أهم ما يمكن أن تفعله الحكومات هو الاستثمار المتواصل في التقنية كي لا يتجاوزها الزمن.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال