الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الإرادة السياسية الواضحة في السعودية والإصلاحات العميقة الممنهجة تدخلنا في تجربة مرحلية قوية للتنمية وتغيير الفكر السياسي والاقتصادي والإجتماعي، وقد ارتفعت قدرة المملكة على مكافحة الفساد بنسبة 7.4 % خلال الفترة من عام 2015م إلى 2016، وارتفعت بنسبة 29.0 % خلال الفترة من عام 2011 إلى 2016، ويتوقع أن ترتفع بنسب أكبر مع إجراءات التي اتخذتها الحكومة مؤخراً لرفع مستوى الحوكمة حسب مؤشرات الحوكمة الصادرة من صندوق النقد الدولي في تقريرها الأخير، وهذه من أهم خطوات تطوير الإقتصاد والتنمية المستدامة، ونتطلع لأن ترتفع النسبة اكثر وأكثر حسب مؤشر مدركات الفساد Corruption Perceptions Index الصادر من منظمة الشفافية الدولية .
فإذا قرأنا في التجربة السنغافورية التي أنتجت قانونا فعالاً ونظام قضائي محايد وسريع وإدارة ضبط إداري تتميز بالصرامة والمهنية سنجد أننا أمام تجربة ضخمة تعيد هيكلة مرحلة مابعد الفساد وتصنع حقبة جديدة للتحول الحقيقي والرؤية التي ترسم المستقبل وتزيل اقتصاد الجيوب الخفي ومصالح ما تحت الطاولة. فالفساد له أثار سلبية كبيرة تصنع خطوط الفقر وتتسبب في تأخر العدالة الاجتماعية وانعدام التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي وتدني المستوى المعيشي لطبقات كثيرة في المجتمع نتيجة تركز الثروات والسلطات في أيدي فئة الأقلية التي تملك المال والسلطة على حساب فئة الأكثرية وهم عامة الشعب، وهو السبب في ضياع أموال الدولة التي يمكن استغلالها في إقامة المشاريع التي تخدم المواطنين بسبب سرقتها أو تبذيرها على مصالح شخصية تبدد حقوق الفئات المهمشة.
هذا سبب في فقدان الثقة في النظام الاجتماعي السياسي، وبالتالي فقدان شعور المواطنة والانتماء، إلى جانب هجرة العقول والكفاءات والتسرب الاقتصادي فهي تفقد الأمل في الحصول على موقع يتلاءم مع قدراتها ،مما يدفعها للبحث عن فرص عمل ونجاح في الخارج، وهذا له تأثير على اقتصاد وتنمية المجتمع عموماً، ومن أثاره خلخلة القيم الأخلاقية والإحباط وانتشار اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع، وبروز ظاهرة التعصب والتطرف في الآراء كرد فعل لانهيار القيم وعدم تكافؤ الفرص وعدم المهنية وفقدان قيمة العمل والتقبل النفسي لفكرة التفريط في معايير أداءالواجب الوظيفي والرقابي وتراجع الاهتمام بالحق العام .
أما اقتصاديا فهو سبب رئيسي للفشل في جذب الاستثمارات الخارجية ، وهروب رؤوس الأموال المحلية وهدر الموارد بسبب تداخل المصالح الشخصية بالمشاريع التنموية العامة ، والكلفة المادية الكبيرة للفساد على الخزينة العامة كنتيجة لهدر الإيرادات العامة وهجرة الكفاءات الاقتصادية نظرا لغياب التقدير وبروز المحسوبية والشللية في إشغال المناصب.
كما أثبتت بعض الدراسات إن تأثير الفساد على النمو الاقتصادي كبيرة جداً, اذ تم اختبار مجموعة من المتغيرات لتحليل العلاقة بين الفساد وهيكل الإنفاق الحكومي, وأستنتج بأن الفساد يخفض الاستثمار والنمو الاقتصادي ويغير من هيكل الإنفاق الحكومي ويؤدي إلى تخفيض معدل الإنفاق على الخدمات العامة .
وحتى ننتقل لمرحلة ما بعد الفساد لابد من زيادة برامج التوعية والتثقيف ضد الفساد الإداري ونشر ثقافة الولاء والتفاني في العمل لتحقيق المصلحة العامة، كما لابد من التأكيد على تحقيق توازن اقتصادي كبير ورفع المستوى المعاشي للمواطن سواء كان موظف ضمن دوائر الدولة أومواطن عادي للنهوض بالمستوى الاقتصادي للفرد والتركيز بشكل كبير على النوع الأول انطلاقا من مبدأ ” لا تضع جائع حارس على طعام “، والعمل على تقوية العلاقة بين الأجهزة الإعلامية وأجهزة مكافحة الفساد الإداري، فالأجهزة الإعلامية تعمل على نشر حالات الفساد التي يتم مكافحتها من قبل أجهزة مكافحة الفساد بهدف نقل الصورة واضحة عما تحققه هذه الأجهزة من انجازات.
ومن وجهة نظري للتأكيد على الخطوات التي اتخذتها الدولة لمواجهة الفساد فقد آن الأوان لإعتماد إستراتيجية شاملة ودقيقة تتضمن إجراءات رادعة ووقائية وتربوية واضحة، وضمن سقف زمني محدد، توجه من خلاله ضربات قاصمة للمؤسسات والإفراد الفاسدين والداعمين للفساد في جميع المستويات الإدارية وبدون استثناء، وتعتمد الخبرات والكفاءات الوطنية وتأخذ بنظر الاعتبار مبدأ وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ووضع آليات موضوعية للتوصيف الوظيفي في اختيار المسؤول، واعتماد بعض الإجراءات التي تساعد على القضاء أو الحد من ظاهرة الفساد الإداري ولعل من أهمها: تقليل الروتين وتبسيط إجراءات العمل وسرعة انجاز المعاملات إلى الحد الذي لا يتيح للموظف سهولة التلاعب، والعمل على جعل عملية تقويم أداء الموظفين والمؤسسات عملية مستمرة لكشف الانحرافات وتصحيحها بصورة مستمرة والحيلولة دون استمرار هذه الانحرافات لتصبح جزء من الثقافة السائدة في العمل، مع أخذ التدابير الوقائية والعلاجية والعمل على تفعيل القوانين ووسائل الردع وتطوير النظم الرقابية.
“الوقاية خير من العلاج” فسياسة الوقاية من الفساد يجب أن تكون واسعة النطاق وقد يتضح ذاك من خلال تجربة سنغافورة بشكل كبير، كالفصل بين الوزارات وإدارة التنفيذ، فالتنفيذ من الأفضل أن يكون من خلال هيئات ومؤسسات محددة فذلك يجعل الوزارة تتفرغ من سلطة التنفيذ وإزالة سبب ما يمكن أن يترتب عليه من فساد ولا يبقي للوزارة إلا التفكير الاستراتيجي للمدى المتوسط والبعيد، ورفع مرتبات الموظفين في الدولة بشكل يجعل منها كافية لتوفير مستوى حياة كريمة، فدفع أجور مرتفعة أهم رادع للفساد.
ولا ننسى أن تبسيط الإجراءات الإدارية والحد من المستندات المطلوبة للحصول على الخدمة مع وضع مدونة إجراءات إدارية واضحة، وتفادي المنطقة الرمادية في سلطة الموظف العام بالتضييق من سلطته التقديرية بوضع معايير دقيقة يستند عليها في أدائه لعمله، لان التوسع في السلطة التقديرية للموظف العام موجب من موجبات الفساد وسبب من أسباب إضعاف الرقابة الفعالة على عمله مع تركيز الاختصاص في جهة معينة من اجل تركيز المسؤولية.
وهناك نقطة مهمة جداً وهي الحد إلي اكبر قدر من تعامل الموظفين بالمال (الموظف لا يرى المال وإنما يرى الأرقام)، فالرسوم والغرامات تدفع الكترونيا، ذلك لان التقليل من تعامل الموظف مع المال يوفر الجهد والوقت ويقلل من الفساد، لذا لابد من توعية المجتمع وتعليمه التعامل الدفع الإلكتروني كالخدمات والتراخيص وغيرها مما يساعد على كسب الوقت والجهد والتقليل من الاتصال المباشر بين الموظف وطالب الخدمة، كما أن إيجاد أنظمة شفافة تؤدي إلي التقليل إلي حد كبير من الأسرار التي يملكها الموظف العام بسبب وظيفته، بحيث أن الموظف الذي لا يملك أسرارا لا يجد أسرارا لبيعها مثل وجود نظام واضح ومفتوح للمشتريات الحكومية ليعتبر بوابة للمشتريات الحكومية تسمح للمتقدمين بعروض رؤية كل الصفقات والمواصفات المطلوبة و شرح إجراءات العقود الإدارية ونتائجها عبر الانترنت.
ولا ننسى الجانب الإجتماعي فالفحص المسبق للحالة الاجتماعية للأفراد قبل التوظيف، وإمكانية تدخل الهيئة العامة لمكافحة الفساد كتدبير وقائي لمنع موظف ما من تولي منصب قيادي أو عمل سياسي بسبب شبهات سابقة بالفساد، كما أن الهيئة يمكن أن تتدخل بالتوصية بعدم التعاقد مع شركة ما لسبق اتهامها بالفساد، والنقطة المهمة “كفاية الاتهام دون الحاجة لان يصدر حكم قضائي بالإدانة”، ضرورة الحد من نشر ثقافة الفساد ومن الحديث عن الفساد في الوسط الاجتماعي، ومن اجل ذلك لابد أن يعتبر نشر إشاعات حدوث فساد أو الحديث مع أخر بشأن قضية فساد دون وجود أدلة واضحة جريمة في حد ذاته.
حظر استعمال الصفة في الأماكن التي تقدم خدمات بالنسبة للقضاة وأعضاء النيابة العامة والموظفين العامين كافة. وإذا ما ظهر بيان الوظيفة في مستند رسمي، فيجب أن يكون ذكره بالقدر اللازم، كأن يدون منصبه دون أي تفصيل أخر. ولابد من الأخذ بعين الإعتبار تحديد مدة ستة أشهر يجب أن تفصل فيه المحاكم في القضايا المعروضة عليها وعدم التأجيل لتاريخ يتجاوز هذه المدة، مع تحديد اجل سنة كحد أقصى يجب أن ينتهي فيه التحقيق والإحالة إلي المحكمة أو حفظ الأوراق فإطالة عمر القضية في التحقيق ومرحلة المحاكمة مؤشر من مؤشرات الفساد أو الإهمال، كما أن العدل المؤخر هو عدل مرفوض.
وقد تبني المشرع السنغافوري تشريعا خاصا بمكافحة الفساد وتوسع في تجريم الفساد ومن ذلك تجريم الرشوة في القطاعين العام والخاص واعتبار عدم إبلاغ الموظف عن جريمة عرض الرشوة عليه جريمة مستقلة، ونص هذا القانون الخاص على عقوبات السجن والغرامات المرتفعة والمصادرة والرد، وفي حالة عدم الرد تضاعف عقوبة السجن، مع استبعاد التداخل بين العقوبات في حالة التعدد، حيث يجب أن تتعد العقوبات بتعدد الجرائم دون أي اعتبار للتتابع بين الجرائم ووحدة الغرض الإجرامي، أما بالنسبة للجانب الإجرائي، فهو قائم على فكرة أساسية هي حتمية العقوبة بحيث صيغت أحكامه على أساس ضرورة إدراك كل شخص انه في حالة ارتكاب جريمة من جرائم الفساد لابد أن يكتشف ويعاقب، وان جرائم الفساد قليلة المردود بالنظر لكثرة مخاطرها.
واليوم فإن وجود لجنة عليا لمكافحة الفساد بقيادة ولي العهد تتولى جمع الاستدلالات والتحقيق في قضايا الفساد ، وتختص بمباشرة مهامها دون تفرقة بين المدنيين والعسكريين وبين القضاة وأعضاء النيابة والسياسيين وغيرهم من الموظفين العامين والعاملين في القطاع الخاص، ويتجاوز دورها الضبط القضائي ليمتد إلي الجوانب الإرشادية والضبط الإداري الوقائي يعد أهم خطوة للوصول إلى الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد.
فعلى سبيل المثال: يكون لها الحق أن تمنع شركة من الدخول في مناقصة لمدة خمس سنوات أو نهائيا وتحول دون تقلد موظف عام مركز قيادي، مع إعطاء سلطات واسعة لأعضاء هيئة مكافحة الفساد في الكشف عن الجرائم ومنها مراقبة التغييرات التي تطرأ على حياة الموظفين وإمكانية الإطلاع على حساباتهم المصرفية، حيث لا وجود للأسرار المصرفية في هذا المجال.
وأخيراً:( تغليب متطلبات فاعلية مكافحة الفساد على متطلبات حماية الخصوصية الفردية).
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال