الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الذعر الاقتصادي ليست عدوى موسمية يمكن علاجها، إنها من أكبر تحديات التحكم في وعي الاقتصادي فيما بين الواقعية وأخرى تتسم بشيء من المخاوف والتشاؤم والتجريد في بعض مما قد يكون ، بيد أن السواد الأعظم هو في الغالب توظيف الوعي الاقتصادي السلبي لجذب الانتباه ، الاقتصادي يولد من رحم الإلهام والشغف به وتوظيفه على نحو من الحقائق فعملاق الاقتصاد الكلي جون مينارد كينز شكّل زواجه من ابنة الفلاح الروسي راقصة الباليه Lydia Lopokova ليديا لوبوكوفا ( البارونة كينز ) عام ١٩٢٥ منعطفًا هامًا في قراءة وتحليل المشهد الإقتصادي واكتساب المهارة في كسب الثروة من المضاربة في أسواق العقود والأسهم.
هذا المنعطف الاقتصادي لديه ولّد أيضا إلهامه وشغفه بالاقتصاد مستمداً منها طاقة إيجابية من ذكائها ولطفها المذهل وحتى قبل زواجه بها كانت ليديا مجرد راقصة لم تعر انتباه الجمهور بالاً سوى رجل إنجليزي واحد فقط هو كينز في حين كان نادي الباليه حينذاك يحظى بحضور النخب ، في الوجه الآخر لكينز نجد الحب والتسامح والاستمتاع بوهج وروح الموسيقى والباليه والأوبرا ، فكانت مبادئه نتاجًا لإعتبارات عديدة برزت فيها مشكلة السلوك الشخصي والاجتماعي في قلبه الأخلاقي النابض بوعي اهتماماته كأحد أهم صانِعِي العصر الاقتصادي التنويري الجديد وبعقلية تتعامل مع المعطيات بشجاعة وحذر بعيدًا عن مثالب الذعر الاقتصادي والذي يسهل معه اليوم ان يكون عنواناً بارزاً لأغلب المحللين والمفكرين الاقتصاديين.
هذا الرجل الفذ لم يكن من السهل لِامرأة أجنبية آتية من الخارج الاجتماعي لكينز أن تأسِرَ قلبه في وقت كان فيه ظروف كينز تسير على نحو مختلف فأثبتتْ ليديا أنها زوجة مثالية له فملأت حياته بالاستقرار العاطفي الذي كان ينقصه في سنواته السابقة ، وهو ما وفَّر الخلفية الضرورية لاستمرار جهده الفكري ففي عام ١٩٢٥ استأجر مزرعة كان يقضي فيها مع ليديا عطلاتهما ، وبدعمها استطاع كينز أن يكتب الجزء الأكبر والأهم من عملَيْه النظريين الكبيرين «بحث في النقود» و«النظرية العامة».
وبالرغم من تعدد النظريات والمفكرين الاقتصاديين في عصره إلا أن كينز يبقى أعظم عظماء هذا العلم ، فقد كان بمثابة الطبيب الذي يداوي المتشائمين بإضافته القيمية للعلاج وتصحيح المسار نحو قمم التفاؤل وقوته التي تكمن في أنه مختلف عمن سبقوه تأسيسًا لسياسات اقتصادية بديلة ومفاهيم جديدة ومكون اقتصادي عميق يحمل مسمى ( المدرسة الكينزية الجديدة ) باقتدار ، لقد كان من أركان معاهدة برايتون وود التي خلقت فيما بعد تكاملاً تجاريًا عالميًا أكثر اتساعًا وحراكًا وأصبحت بالتالي جميع أطروحاته منهجية الممارسة والعلم كيف لا ! وهو أحد المنارات الفكرية في كامبريدج والذي درس الاقتصاد على يد ألفريد مارشال Alfred Marshall ، وبات أحد أنبغ طلابه ووجهته الفكرية نحو بيئة نقاشية ثرية بين هذين القطبين وبعقليات منفتحة وواعية لا تتوقف.
هذا الحال مهد الطريق أمام كينز تحويل أي فكرة إلى نظرية اقتصادية جذابة تكتظ أوراقها بحقائبه يحملها معه دائما نحو الآخرين بقلبٍ متسعٍ ومليئًا بالطيبة والتسامح والعاطفة والروح على نحو استثنائي ، كما أنه على الصعيد المهني يعد مؤسس علم الاقتصاد الكلي الحديث فقاد ثورة في الفكر الاقتصادي أحدثت انقلابًا هادئًا في السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى تحقيق التوظيف الكامل واستقرار الأسعار وما يتبعه من زيادة الطلب الكلي والعوامل المرتبطة به ومن ثم استجابة الأسعار لمتغيرات العرض والطلب خلال فترة زمنية معينة وقال بأن عدم كفاية الطلب الكلي يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع معدل البطالة لفترات طويلة فالناتج الاقتصادي من السلع والخدمات هو مجموع أربعة عناصر، هي:
الاستهلاك، والاستثمار، والمشتريات الحكومية، وصافي الصادرات وأي زيادة في الطلب يجب أن تأتي من أحد هذه العناصر الأربعة. لكن خلال فترة الركود تؤدي بعض القوى القوية غالبا إلى الحد من الطلب كلما انخفضت النفقات ويمكن أن يؤدي هذا الانخفاض في نفقات المستهلكين إلى انخفاض النفقات الاستثمارية من جانب الشركات، وذلك كرد فعل من هذه الشركات على ضعف الطلب على منتجاتها. فوضع زيادة الناتج ضمن مسؤوليات الحكومة فهو يعتبر هذا التدخل أمراً ضرورياً للحد من دورة الانتعاش والكساد في النشاط الاقتصادي والتي تعرف باسم الدورة الاقتصادية ، كما انه كان يرى أن للحكومة دورًا هامًّا في علاج المشاكل الاقتصادية الداخلية لأنها تمتلك الوسائل والالتزام الأخلاقي لمواجهة ذلك ، مثل البطالة والتضخم ، من خلال سياستها الانفاقية والضريبية.
هذه المعطيات الاقتصادية لم يخلق لها كينز نظريات مرعبة وعناوين ملفتة ومثيرة للجدل بل حولها الى ممارسات نظرية متوازنة ومهنية فكان أول من طبق الأفكار الكنزية عمليًّا الرئيس فرانكلين روزفلت خلال فترة الكساد العظيم ، أفكار كينز كثيرة ومنها رؤيته التي تقول إننا لا نعلم ما سيحدث في المستقبل ، ولا يُمكننا التنبؤ به وفي ظل هذا الوضع تُمثِّل النقودُ مصدرَ اطمئنانٍ نفسي في مواجهة عدم اليقين وحينما يشعر المدَّخرون بالتشاؤم تجاه المستقبل ، يمكنهم الاتجاه إلى الاحتفاظ بمدخراتهم بدلًا من استثمارها في الأعمال لذا يقول انه ليس ثمة ما يَضمَن إنفاقَ الفرد لدخله بالكامل اي يعني أنه لا توجد نزعةٌ فطرية لدينا لاستغلال جميع مواردنا المتاحة أي انه لفت الى مساحات مطمئنة ومتفائلة للإدخار في كل الظروف.
مجمل القول : الحديث عن كينز ( مُلّهِم الاقتصاديين) بأفكاره المتجددة تلقائيًا لا يشق لها غبار إنها خارطة طريق تجمع بين الفكر والممارسة التي نادرًا ما يتمتع بها أي اقتصادي في العالم وبخطين متوازيين. كينز لم يكن في يوم ما خالقًا للذعر الإقتصادي ، كان ذا نظرة تفاؤلية ، مسالمًا إلى حد بعيد في وقت كان عصره شاهدًا على الحروب والأزمات الاقتصادية وصراع القوى الكبرى في العالم ، استثمر أفكاره الاقتصادية ونظرياته في بوضوح في اليقين وعدم اليقين ودرجات المخاطرة والافتراضات ونتائج الاحتمالات التي تستند على الأرقام والمؤشرات ، كينز القديم والحديث يبقى أيقونة اقتصادية ساهمت في واقعية الإقتصاد على نحو ملائم وبأثر منهجي مستقبلي لا يمكن إزاحته حالة فريدة من الإلهام الإقتصادي الذي لا يمكن الاستغناء عنه وهو قدوة لتجنب فوضى الذعر الاقتصادي .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال