الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
استوقفتني عبارة تتكرر كثيراً على إحدى المحطات الفضائية العالمية المتخصصة بالأخبار المالية والاقتصادية؛ تنص هذه العبارة على أن ” لغة الأرقام لا تحتمل الخطأ، واتخاذ القرارات يبنى على الحقائق”. من هذه العبارة الجدلية التي تحتمل الكثير من “الخطأ” سابدا بإلقاء الضوء على أهمية الدقة في الأرقام وعلاقتها بالحكم الموضوعي وعلاقة ذلك باتخاذ القرار الاستثماري الرشيد.
تميز نظرية اتخاذ القرار بين الحكم الشخصي أو الذاتي Subjective Judgment والحكم الموضوعي Objective Judgment على الأمور، حيث يتضمن الحكم الشخصي دخول تأثير العوامل الشخصية لمتخذ القرار كالقيم والخلفية الثقافية وأحكامه المسبقه وطبيعة شخصيته. فيما ينطوي الحكم الموضوعي على قرار متجرد غير متحيز مبني على حقائق ثابتة لا يختلف عليها اثنان كما في العلوم التطبيقية البحتة كالرياضيات والفيزياء. وبالتالي فإن الحكم الشخصي خاضع للجدل ويخضع لاختلاف وجهات النظر فيما الحكم الموضوعي حاسم ولا يقبل الجدل.
فيما يتعلق باتخاذ القرار الاستثماري، فإن متخذ القرار لا يكون أمام أحكام موضوعية مجردة مبنية على الأرقام، وذلك لدخول عدة عوامل تؤثر على القرار إلى جانب الأرقام المجردة، كما أن الأرقام ذاتها التي سيتم الاعتماد عليها في اتخاذ القرار الاستثماري–وهذا محور النقاش- ليست موضوعية ولا مجردة كما قد يتبادر للبعض أو كما قد يفهم من العبارة التي بدأنا المقال بها. فمن نافلة القول أن الاستثمار سلوك اقتصادي بشري، ودراسته تقع ضمن العلوم الإنسانية أو السلوكية لأنه يتأثر بطبيعة الإنسان وشخصيته ذات الأبعاد بالغة التعقيد والتي يصعب قياس كثير منها بشكل كميّ أو رقمي. كما أن الظاهرة الاقتصادية بكل تفاصيلها تخضع لمتغيرات عديدة جداً لا يمكن حصرها وتحديد تأثر كل منها بشكل دقيق، يلخص هذا المقولة الشهيرة “إذا التقى اقتصادييّن اثنين، فسوف تجد ثلاثة آراء!”. كما أن الأرقام الاقتصادية ذاتها تحتمل الكثير من الخطأ وعدم الدقة بل والخداع في أحيان كثيرة.
يتعلق اتخاذ القرار الاستثماري بأحداث مالية مستقبلية لا يعلم حدوثها على وجه اليقين إلا الله سبحانه وتعالى، ولمعالجة هذه المعضلة فإننا نلجأ إلى نظرية التوقع الإحصائي لتقدير الاحتمالات المتوقعة للحالة الاقتصادية ومعدلات العوائد المتوقعة بناء عليها، ومنها نخرج بقيمة متوقعة للعوائد نحتسب مها احتمالات الخطر بأحد المقاييس المشهورة كالانحراف المعياري. إن هذه الأرقام التي ستبدأ منها عملية الاستثمار ومقارنة وتقييم العوائد مستقبلاً ليست “غير قابلة للخطأ” وليست موضوعية بالكامل، بل إنها أقرب ما تكون للحكم الشخصي منه للحكم الموضوعي المجرد، والسبب بسيط؛ لأنها بنيت على “تقديرات” تأثرت بشخصية واضعيها وتحيزهم بشكل قد يكون كبيراً أو صغيراً، كما أنها ليست مبنية على حقائق مؤكدة بل توقعات محتملة.
هذا بالنسبة للبيانات المستقبلية المحتملة، فكيف بالنسبة للأرقام التاريخية المؤكدة التي تبرزها البيانات المالية الرسمية المعلنة، فهل هذه تحتمل الخطا أيضاً؟! الجواب بـ “نعم” كبيرة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ظهور ما يسمى “المحاسبة الإبداعية” Creative Accounting التي هي أبعد ما تكون عن هذه التسمية الجذّابة، فهي لا تعدوا كونها “محاسبة غش ومخادعة” أكثر منها إبداعية، تنطوي على توريط المستثمرين ببناء قراراتهم على أرقام يثبت فيما بعد أنها مظللة وخادعة، إذا أنها تشبه عملية تجميل لأنثى غير ذات جمال لكي يتم قبولها من المتقدم للزواج، وبعد أن يتورط المسكين تظهر على حقيقتها؛ ولكن بعد فوات الأوان!. وهذا ليس بالطبع اتهاماً للمحاسبة ومبادىء نظام التسجيل والإفصاح المحاسبي بقدر ما هو توضيح لوجود إجراءات غش وخداع وتظليل يقوم بها بعض المحاسبين لإظهار “الأرقام” في البيانات المالية للمستثمرين على غير حقيقتها. والأمثلة على ذلك أكثر من أن يحصيها مقال مقتضب.
لتفادي الوقوع في مصيدة أن ” لغة الأرقام لا تحتمل الخطأ واتخاذ القرارات يبنى على الحقائق” فإن على المستثمر أولاً أن لا يثق بالمعنى الحرفي لهذه العبارة البرّاقة، ثم إن عليه أن ينظر إلى ما بعد الأرقام وأن يقوم بتحليل متعمق وليس الاعتماد على بيانات سطحية حتى لو كانت منشورة كبيانات مالية رسمية. وأنصح كل مستثمر بأن يرجع إلى من يثق به فهماً وأمانة (القوي الأمين) لكي يستشيره في اتخاذ القرار الاستثماري، فلا يضير أن تدفع تكلفة بسيطة في الاستشارة قبل أن تغامر بمبالغ كبيرة ترميها في بحر التكهنات والأرقام –التي تحتمل الخطأ- وتقلبات الأسواق.
– اتخاذ القرارات الاستثمارية بين الموضوعية والحكم الشخصي:
الأرقام وقدسيتها
الفرق بين الأرقام المجردة في العلوم البحتة والأرقام الاقتصادية
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال