الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
“الناس فيما يتصل بالارباح والخسائر لا في الروليت فحسب بل في كل مجال آخر إنما يحركهم دافع واحد : هو أن يربحوا أو أن ينتزعوا شيئاً من شخص آخر” هكذا وصف فيدور دوستويفسكي شعور المقامرين في روايته “المقامر” .رواية تشكلت من حالة عاشها الكاتب الروسي في منتصف التاسع عشر انتهت به إلى الإفلاس لدرجة أن وصف نفسه بعد إفلاسه برواية أخرى عنوانها ” الأبله “.
القمار القهري هو رغبة لا يمكن السيطرة عليها فالمقامر رغم خسائره، يصل لحالة أن يكون مستعدًا لخسارة شيء قيم على أمل الحصول على شيء أكثر قيمة، فالقمار يحفز نظام المكافأة للدماغ مثل الكحول والمخدرات، والتعامل معه صعب إذ أن معظم الناس يرفضون الاعتراف أن لديهم مشكلة.
وباء القمار القهري – أو قل أعراضه – تسللت إلى نفوس متداولي الأسهم في البورصات دون شعور، فاتخذ سلوك كثير منهم سلوك الإدمان، فأضحى تداول كثير منهم ليس بناءً على مؤشرات الأرباح والقيم العادلة، بل على أسعار الأسهم على الشاشات بغض النظر عن نتائج الشركات، فظهرت فجوة مقامرة بين قيم المؤشرات الرأسمالية وبين قيم مؤشرات الأرباح الفعلية.
من النسب الفريدة التى قاست هذه الفجوة (نسميها جدلاً فجوة المقامرة) بين أرباح السوق و قيمته الرأسمالية هي نسبة السعر إلى الأرباح ( P/E) المعدلة دوريًا حسب الدورات الاقتصادية (CAPE) والتي قدمها روبرت شيلر وجون كامبل في بحث إلى الاحتياطي الفيدرالي أشار إلى أن أسعار الأسهم كانت تسير بوتيرة أسرع بكثير من الأرباح . ففي عام 1998م نشر شيلر وكامبل مقالهما الرائد “نسب التقييم وتوقعات سوق الأسهم طويلة المدى”، وبينا منحني أرباح شركات ستاندرد أند بورز 500 من خلال أخذ متوسط الأرباح الحقيقية على مدى السنوات العشر السابقة إبتداء من عام 1872 وعلاقته بمؤشر السوق.
روبرت شيلر الحائز على جائزة نوبل قدم أبحاثاً في المالية السلوكية وأثرها على أسعار الأسهم ، وجاء هذا المقياس (CAPE ) مؤشراً يتنبأ بحدوث الانهيارات في أسواق المال التي تتضخم مؤشراتها وتتذبذب أسهمها وكأنها قداح بيدي ياسر تتقلق.
في العقد الثاني من هذه الألفية ارتفع مقياس CAPE لمؤشر ستاندرد أند بورز 500 بشكل مطرد حيث انتعش الاقتصاد في الولايات المتحدة ، ووصلت أسعار الأسهم إلى مستويات قياسية واعتبارًا من يونيو 2018، وصل مقياس CAPE عند 33.78، مقارنة بمتوسطه على مدى تاريخ السوق عند 16.80، آخذين بالاعتبار أن معدل CAPE لم يتجاوز سابقًا 30 إلا عامي 1929 قبل الثلاثاء الأسود الذي تلاه الكساد العظيم حيث تجاوز 30 بقليل ، وعام 2000 حيث وصل 44 هو الأهلي تاريخيا قبل انهيار مؤشرات أسواق المال الأمريكية . ومن الملاحظ أن مقياس CAPE لم يتجاوز ال 30 قبل أنهيار الإثنين الأسود عام 1987 و لا في عام 2008 قبل أزمة الرهن العقاري.
وهذا العام وفي شهر يناير وقبل تفشى وباء الفيروس التاجي تجاوز معدل 30 و كانت هذه القيمة المرتفعة للمعدل تنذر بتصحيح كبير للسوق دون الحاجة لمساعدة من الزائر المزعج الفيروس التاجي. والآن وفي وقت كتابة هذا المقال وصل مقياس CAPE ستاندرد أند بورز لمستوى 23 وهذا أسرع انخفاض تاريخي له مما أدى إلى إعادته لمستويات 2013 ومتوسطات خمسين عامًا ، ففي مقال لشوان تولي كتبه في 24 مارس في مجلة فورتشن يقول: “ربما يكون هذا الانحدار التاريخي قد أعادنا ببساطة إلى ما كان يجب أن نكون فيه طوال الوقت : القيمة العادلة”.
نعم القيمة العادلة التى تبين الفرق بين عقلية المقامر وبين عقلية المستثمر، القيمة العادلة التى تمنع انتزاع بعض المسعورين مافي أيدي الآخرين تحت مسمى المضاربة، والقيمة العادلة المبنية على النتائج والأرباح الحقيقية والتي لاتحول سوق المال لكومة رمل للمقامرة، كما كان المتقامرون في الجاهلية يفعلون فإما يجد المتقامر “الأبله” الخبيئة في الكومة يمينًا فيربح وإما شمالاً فيخسر في مشهد وصفه شاعرهم بقوله : كما قسم التربَ المفايلُ باليد .
يتبع ،،
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال