الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تُعد نازلة (فيروس كورونا المستجد – COVID-19) من الوقائع المستجدة التي تستدعي حكماً شرعياً وقانونياً، فقد أتى هذا الوباء على الحياة العامرة فعطلها، فتأثرت العقود، والالتزامات، والديون، والبيوع، وتضررت معاشات الناس، وأسواقها، وأرزاقها، ولم يعد ذلك مقصوراً على بلد دون آخر، فقد شمل الوباء كافة بلاد الله أجمعها، في سابقة يذكر المعنيون أنها لم تحدث على هذا النحو المفجع منذ أكثر من قرن من الزمان، عجل الله برفع ذلك، والوقاية منه.
هذا التأثير الجسيم على كافة القطاعات التجارية والاستثمارية والاقتصادية والمالية أدى إلى تسابق أقلام الباحثين والمحامين والمستشارين القانونيين بشكل كبير ومبكر لتنزيل أحكام النظريات الفقهية والقانونية التقليدية على الوباء، هل يعد قوةً قاهرة، أم أنه من قبيل الظروف الطارئة، أم السبب الأجنبي، أم وضع الجوائح، ومنهم من خلط فعد الظروف الطارئة والقوة القاهرة من باب واحد، ومنهم من أنزل أحكام التعويض عن المسؤولية التقصيرية محل التعويض في المسؤولية العقدية، بل إن بعض الهيئات القضائية وعبر منصاتها التقنية استعجلت في إطلاق بعض الأحكام على هذه النازلة، على نحو غير محبذ، خاصة وأن الأمر لم يصدر بشأنه مبدأ أو حكم ولم تعرض بخصوصه واقعة على القضاء، فاستباق ذلك بالتغريد عن نظرية الظروف الطارئة مثلاً، تأطير لعقلية القاضي الذي سينظر المنازعة لاحقاً، وإيهام بحصول التعويض أو ترتيب الالتزام للمتقاضين بناءً على آثار هذه النظرية ومآلاتها.
ولعل السؤال الذي يجب إثارته بداءة، هو البحث الدقيق عن التوصيف الفقهي والقانوني لهذه النازلة، إذ أن عملية التكييف تعد المرحلة الأخطر والأهم عند البحث في النوازل، فأول مراحل التوصيف هو: حسن التصور الكامل للواقعة، على نحو دقيق، شامل لكافة جزئياتها الجوهرية، ومن ثم تحرير الأصل الذي تنتمي إليه، والظاهر وفقاً لكافة المعطيات الأولية المبنية على التصريحات الرسمية (وزارة الصحة في المملكة نموذجاً) أن من المبكر معرفة الآثار المترتبة على هذا الوباء على نحو واضح، فالحجر المفروض على غالبية سكان الكرة الأرضية، وتعطيل خطوط الملاحة الجوية والبحرية، كل ذلك لايعرف متى ستكون نهايته، فالأزمة لازالت بالرغم من مرور شهور على بدايتها، تشكل غموضاً علمياً، مبني على غموض المرض وتداعياته الطبية، وآثاره، وطرق انتقاله، وسبل الشفاء منه.
ولنأخذ قطاع العمرة والحج نموذجاً لذلك، فقد أطلق خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده الأمين – أعزهما الله – في العشر الأخير من رمضان المنصرم (برنامج خدمة ضيوف الرحمن) وهو أحد أضخم برامج رؤية المملكة (2030)، وللبرنامج مستهدفاته ومبادراته السخية والطموحة المعلنة (تشريعياً ومعمارياً واستثمارياً وبنية تحتية لكامل القطاع)، ومع وباء كورونا أعلنت المملكة عن تعليق كامل للعمرة والزيارة، وفي خطوة تهدف للحفاظ على قاصدي بيت الله، ومسجد رسوله صلى الله عليه وسلم، تم تعليق الدخول للعموم للحرمين الشريفين، وتعليق الدخول لمكة والمدينة – شرفهما الله – وإيقاف كافة الرحلات القادمة، ما أدى إلى توقف لكافة الأعمال التجارية والاستثمارية والتعاقدية في قطاع الحج والعمرة شاملاً ذلك كافة النواحي المغذية للقطاع أو الناتجة عنه، من مقاولة وفندقة وإعاشة ونقل وتجزئة وغيرها، هذا التوقف أدى إلى البحث عن الالتزامات والتعاقدات السارية في ظل كل ذلك، هذا النموذج يمكن الانطلاق من خلاله للإجابة عن سؤال التوصيف، عنوان هذا المقال، ولنا ثلاث وقفات منهجية في سبيل ذلك:
أولاً: إن البحث في (توصيف النازلة) فقهاً وقانوناً يستتبع بالضرورة (تصوراً دقيقاً) لكافة العناصر المؤثرة والجوهرية بخصوصها، إذ لا يمكن تحرير الأصل الذي تنتمي إليه (الواقعة) إلا بتحرير أوصاف الواقعة أولاً، فرد المسألة إلى أصلها الشرعي والقانوني منزلة لاحقة لمنزلة المعرفة بالواقعة على نحو يمكن معه تنزيل الأصل واستصحابه، وفي بيان هذا المعنى يقول ابن القيم في إعلام الموقعين (1/69): (ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه واستنباط على حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع)، ولذا كان من أهم مهمات القاضي: (فحص الوقائع من الناحية المادية).
ثانياً: ما اعتبره الإمام ابن القيم في نقله السابق، نوعاً ثانياً وهو: فهم الواجب في الواقع، إن الملاحظ الاستعجال في البحث بطريق التخريج على النظريات التقليدية المرسومة والمتأطرة سلفاً في ذلك، فتخريج النازلة على كونها داخلة في حكم: (القوة القاهرة) أو : (نظرية الظروف الطارئة) أو غير لك، تخريج قاصر، إذ إن هذه النظريات عند النظر في تاريخ نشوئها، وتسلسل البدء بقولها، يجد الباحث أنها بناتٌ لأزمنتها، فقد تشكلت وتكونت وفقاً لظروف معينة، وواقعات محددة، كانت تستتبع هذا التنظير من حيث الاشتراط والآثار، إن هذا الوباء بحاجة فقهية وقانونية وقضائية لمزيد من التأصيل والبحث المعمق، للخروج بنظرية جديدة، تواكب هذه النازلة، من حيث خطورتها، ومداها، وانتشارها، وآثارها، وفي الاكتفاء بالتخريج القاصر على نظريات قديمة قصور ظاهر، وإن هذه النظريات وليدة القضاء، وربيبة مدرسته، ما يلقي بالعبء الأكبر على قضاتنا الأفاضل، والمملكة بحمد الله تزخر بقضاة اكتمل تأهيلهم الشرعي والقانوني، وجمع الله لهم من حسن الفقه، وملكة الاستنباط، وتمام الأهلية العلمية، ما يمكنهم من الاجتهاد في مثل هذه النازلة من خلال الواقعات القضائية التي ستعرض أمامهم، فنظرية الظروف الطارئة – على سبيل المثال – وليدة القضاء من مجلس الدولة الفرنسي (القضاء الإداري) عندما عرضت عليه الدعوى المقامة من قبل شركة الغاز لمدينة بوردو في فرنسا، وقد كانت خروجاً على مبدأ (سلطان الإرادة العقدية) الذي كان معمولاً به، وسائداً وقتئذ، ثم تطورت هذه النظرية، وتحدد نطاقها، شروطاً واستثناءات وغير ذلك، وكل هذا كان وليداً لاجتهادات القضاة، في أروقة المحاكم، وتحت ظلالها العادلة، وتاريخ القضاء السعودي على توالي مسيرته المباركة ضرب مثالاً أسمى في كفاءة رجاله، وقبل هذا وبعده في بركة مصدره، وعدالة حكمه، فالحمد لله على تحكيم الشريعة، واتباع الوحي، والفقه الإسلامي برحابة مذاهبه زاخر وعامر، فهذا العلامة الفقيه القانوني مصطفى الزرقا رحمه الله في مقدمة كتابه: (المدخل الفقهي العام) ينقل هذا النص: (في الثاني من تموز عام 1951م عقدت شعبة الحقوق الشرقية من المجمع الدولي للحقوق المقارنة مؤتمراً في كلية الحقوق – جامعة باريس – للبحث في الفقه الإسلامي برئاسة المسيو ميو أستاذ التشريع الإسلامي في كلية الحقوق بجامعة باريس حضره عدد من أساتذة الحقوق في الجامعات العربية والغربية، وعدد من المستشرقين ، وفي خلال بعض المناقشات وقف أحد الأعضاء وهو نقيب محاماة سابق في باريس فقال: أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يُحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي وعدم صلاحه أساساً تشريعياً يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها مما يثبت خلاف ذلك تماماً ببراهين النصوص والمبادئ، وفي ختام المؤتمر وضع المؤتمرون تقريراً نقتطف منه: إن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها، وإن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات، ومن الأصول الحقوقية هي مناط الإعجاب، وبها يستطيع الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة، والتوفيق بين حاجاتها)، وليس الموضع محتملاً للإسهاب في ذلك، ولكنها وقفة منهجية، مذكرة قضاتنا الأجلاء بضرورة تفعيل دورهم (الاجتهادي) في هذه النازلة، وفقاً للأصول الشرعية، مستصحبين التخريجات الفقهية باعتبارها أنيساً لا دليلاً، للخروج بنظرية وقاعدة صالحة للتطبيق حيال هذه الجائحة، وإن المؤسسات الحقوقية، والأكاديمية، بانتظار ما تنتهي إليه الأحكام المؤصلة، للدرس والنظر والتحليل، كان الله لهم عوناً وسداداً.
ثالثاً: الملاحظ على نحو جلي، باستقراء للدراسات القانونية المتبناة من قبل العديد من مكاتب المحاماة المرموقة، حيال هذا الوباء وآثاره على الالتزامات العقدية، تنزيلهم للنظريات (القوة القاهرة – الصعوبات المادية – الظروف الطارئة – عمل الأمير .. الخ) على نحو متساو في كافة العقود، وهذا فيه نظر فإن من المهم التفرقة بين العقود في هذا السبيل، ومدى صحة تنزيل النظريات على كل عقد على حدة، فعقد العمل مختلف في تكوينه ومقتضياته ونطاقه والباب القانوني المنتمي إليه عن عقد المقاولة، وعقد المقاولة مختلف كذلك عن عقد الصيانة، والعقود المدنية مختلفة بالكلية عن العقود الإدارية، والعقود ذات التنفيذ المستمر متباينة في الأثر والتكوين عن عقود المدة المحددة، وهكذا دواليك، لذا فإن من الإيهام إعطاء رأي قانوني موحد، وتنزيل نظريات – على الفرض بصحة التنزيل – على العقود كافة، ويلاحظ في السياق ذاته، تداعي البعض لضرورة (النص التشريعي) حيال الوباء وآثاره القانونية، منعاً من اختلاف الاجتهادات وفقاً لتوهمهم، وصوناً للحقوق والالتزامات، وقد عزب عنهم أن التشريع لا يصح سريانه بأثر رجعي، وعلى حقوق والتزامات مستقرة، متكونة من قبلُ، والقول بسريانه بالنص هدم لما أرادوا الابتعاد عنه، علاوةً على أن الأمر الطارئ لن يستوعبه التشريع، فالعقود كما سلف متباينة، وسيؤدي التشريع المختزل المبتور لآثار كان الحمد في اجتنابها، والسعد في التباعد عنها، وللتشريعات المبتسرة العجلى خطورة أعظم أثراً من غياب النص، إذ الغياب محكوم بالقواعد العامة العادلة، وفي القياس والتخريج والاجتهاد مندوحة، وأما النص المهترئ فحاكم على الواقعات، مبطل للأقيسة العادلة، مسوغ للقول بما لا يصح الصيرورة إليه.
وفي الختام، فلعلي أنتهي بما ابتدأت به، من ضرورة التريث في إطلاق الأحكام على عواهنها، ولمّا يستقيم للناظر في هذه النازلة، (التصور الدقيق) المؤدي لحسن (التوصيف) والتكييف الفقهي والقانوني، إذ أن مجال القول إنما يبتدأ مع المظنة الراجحة لاكتمال الواقعات الجوهرية، فلعل في النازلة هذه لبعض العقود والالتزامات من الخير أضعاف ما كان يخشى من الضرر، من انخفاض في الأجور، أو الأصول، أو تعديل في طريقة أداء الالتزام القانوني، أو تخفيف للعبء التعاقدي، أو ارتفاع في قيمة النقد، وغير ذلك، مما لا يصح معه بحال تطبيق قاعدة : (وضع الجوائح) أو (القوة القاهرة) أو (الظرف الطارئ)، لانتفاء الوصف المؤثر: (الخسارة الجسمية) أو (استحالة التنفيذ أو تعسره) وفقاً لمناطات كل نظرية، وهذا لن يظهر إلا مع بدء تكشف الأزمة – بحول الله – إذ حينها ستتكشف معها أوراق السوق، وجوانبه، ومعطياته الجديدة، مما يمكن بعدها معرفة العقود والالتزامات وفقاً للأوضاع المستجدة، وهي خير بحول الله، ولن يجمع الله على عباده عسرين، رفع الله البلاء، وحفظ بلادنا، والمسلمين، من كل مكروه.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال