الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يكثر الحديث الآن عن أضرار جائحة كورونا الاقتصادية بل وحتى عن فوائدها مما يخلق تساؤلاً هاماً حول المشهد الاقتصادي العالمي بعد مرور هذه الجائحة وما هي سماته. واعتقد ان من المهم لكل الفئات الاقتصادية سواءً متخذي القرار او المستثمرين او حتى الأفراد فهم السياسات الاقتصادية الناجمة عن هذه الأزمة وتكوين تصور واضح للمشهد الاقتصادي العالمي لحقبة ما بعد كورونا وذلك للتخطيط بشكل سليم واتخاذ قرارات اقتصادية صائبة.
من أهم سمات المشهد الاقتصادي بعد كورونا هو عودة الاقتصاد العالمي الى بيئة أسعار الفائدة المنخفضة أو الصفرية من جديد. رد الفعل المباشر لصانعي السياسات الاقتصادية على هذه الجائحة يكاد يكون مطابقاً لما أتخذ من سياسات لمواجهة الأزمة العالمية في 2008 وهو تخفيض تكاليف الاقتراض إلى ادنى حد ممكن سواءً بالطرق التقليدية كخفض أسعار الفائدة أو الغير تقليدية كسياسات التيسير الكمي.
من المفترض، على الاقل نظرياً، أن تعود السياسات الاقتصادية وأهمها أسعار الفائدة إلى ما كانت عليه بشكل أسرع بكثيرعن تلك التي استغرقتها بعد أزمة 2008م والتي امتدت لعشر سنوات تقريباً. ذلك أن الأزمة الحالية تختلف بطبيعتها عن أزمة 2008م. فهي أولاً ناجمة عن مؤثر خارجي تنتهي بزواله لا عن خلل في النظام الاقتصادي. كما أن جُل التأثير يتمثل في جانب الطلب وليس العرض كما في 2008م. أضف إلى ذلك أن الملائة المالية للنظام العالمي المالي (حتى الآن) هي أفضل مما كانت عليه بعد الأزمة السابقة بسبب احتياطيات رأس المال التي تم تكوينها للتحوط ضد أزمات مستقبلية.
هذا نظرياً، أما عملياً، فهناك متغير اقتصادي بالغ الأهمية لا يجب إغفاله: معدلات الدين العام. إن أحد أهم السياسات المتبعة لمواجهة كورونا هي تحفيز الاقتصاديات بزيادة الإنفاق الحكومي والذي يتم تمويله برفع وتيرة الاقتراض مما سينجم عنه ارتفاعات حادة للدين العام. على سبيل المثال، تشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى ارتفاع صافي المعدل السنوي للاقتراض الحكومي (كنسبة من الناتج المحلي) في 2020م مقارنة بالعام 2019م من 3 الى 10.6 في المائة في الاقتصاديات المتقدمة ومن 5.8 إلى 15.4 في المائة في الولايات المتحدة ومن 4.5 إلى 12.8 في المائة في المملكة. كما أن نسبة الدين العام للناتج المحلي سترتفع من 105 الى 122 في المائة لدى الاقتصاديات المتقدمة ومن 53 الى 62 في المائة في الاقتصاديات الناشئة.
وعلى الرغم من أن ارتفاع نسب الدين على هذا النحو هو حاجة ملحّة لتمويل الانفاق الحكومي اللازم لمواجهة الأزمة، الا أنها قد تخلق مخاطر حقيقية على اقتصاديات العالم في حال ما أقدمت هذه الاقتصاديات على رفع أسعار الفائدة مباشرةً بعد الأزمة. فرفعها لأسعار الفائدة سيكون بمثابة اطلاقها الرصاص على أرجلها حيث أنها ستؤدي الى ارتفاع تكلفة ديونها مما يهدد ماليتها العامة ويزيد من فرص تعثرها وهو ما تحذر منه المنظمات الدولية.
إذن فعلى الأغلب سيتسم المناخ الاقتصادي العالمي في حقبة ما بعد كورونا بتكاليف إقراض منخفضة جداً ولفترة ليست قصيرة. هذا بدوره سيؤثر على معظم القطاعات الاقتصادية الأخرى. فقد تزدهر اسواق المال ذات المخاطر (كالأسهم والسندات عالية المخاطر) بحثاً عن عوائد مغرية. أما أسواق العقار، فعلى الرغم من التأثير السلبي للأزمة المتمثل في الانكماش الاقتصادي والذي يحد من الطلب عليها، إلا أن انخفاض تكلفة الاقتراض العقاري قد يحد من ذلك التأثير نسبياً.
لا شك ان هذه الحقبة ستمثل تحدياً للمملكة، إلا أنها ايضاً تتيح فرصاً يمكن اغتنامها. من أهم التحديات ضرورة ترتيب أولويات المالية العامة والانفاق الحكومي لضمان بيئة استثمارية محفزة واستمرار العمل على أهداف الرؤية التنموية مع ترشيد الانفاق ورفع كفاءة المالية العامة في نفس الآن. هذا سيزيد من الاعتماد على دور القطاع الخاص مما يخلق فرصاً اضافية للاستثمار. ومن الواضح وعي متخذي القرار لهذا التحدي وهو ما صرح به وزير المالية السعودي حول مرونة الموازنة ومبادرات التحفيز الاقتصادي وخاصة للمنشآت المتوسطة والصغيرة. كما أن العودة إلى معدلات الفائدة الصفرية يخدم خطط التمويل في المملكة والتي سيتوفر لها قنوات ائتمانية منخفضة التكلفة مع إقبال للمستثمر الدولي على سندات المملكة بحثاً عن عائدات جيدة ذات مخاطر محدودة نسبياً.
أسعار الفائدة الصفرية ستكون سمةً رئيسة في المشهد الاقتصادي بعد كورونا ولكنها لن تكون الوحيدة. أولويات الإنفاق الحكومي والمالية العامة, حركة رؤوس المال، سلوكيات المستثمر، استراتيجيات الأعمال، كل ذلك سيتطور. بشكل عام، التغيرات الاقتصادية بعد كورونا متعددة وجوهرية ومن الضروري قراءة السياسات الاقتصادية الناتجة عن هذه الأزمة بتمعن والنظرفي تبعاتها للتخطيط بشكل سليم سواءً على مستوى الأعمال او الأفراد.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال