الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تطور الأمم وتقدمها وتنميتها مرتبطة بالتعليم ومدى جودته. وأي مشكلة تترسخ في المجتمع المتهم الأول فيها التعليم، والحل لها لابد أن يبدأ منه. ورغم ما لقيه التعليم في المملكة من تطوير وتحسين وتغيير إلا أنه مازال يعاني من بعض المشكلات والقصور التي لابد من معالجتها، لنقل المجتمع والاقتصاد إلى مصاف العالم الأول.
العلاقة بين الاقتصاد والتعليم علاقة توأمة، ولا يمكن فصلهما عن بعض، فكثير من المشكلات الاقتصادية سببها التعليم، كما أن بعض المشكلات التعليمية سببها الاقتصاد. ومن خلال متابعة دقيقة للتعليم والاقتصاد وعن قرب، أرى بوضوح نقاط المشكلات المترابطة بينهما. ومن خلال سلسلة من المقالات سوف أقوم بتسليط الضوء على تلك النقاط في الجانبين، وسأتطرق لمشكلة واحدة دقيقة ومحددة في كل مقال.
النجاح السهل في التعليم العام من المشكلات الحقيقية التي أثرت في جودة التعليم وبالتالي على سوق العمل والاقتصاد. فقبل أكثر من خمس وعشرين عاما كان النجاح في التعليم العام بجميع مراحله صعبا نوعا ما ويحتاج جهدا كبيرا. وقد يكون ذلك سببا في جعل المملكة تحتل مركزا متقدما في نسبة تسرب الطلاب من التعليم العام في ذلك الوقت. لذلك عملت وزارة التعليم على جعل النجاح أكثر سهولة، وتبنت عدة مبادرات مثل التجاوز عن مادتين بـ 70٪ من نسبة النجاح عدا مواد التربية الإسلامية واللغة العربية، وغيرها من المبادرات. ولو استعرضت المبادرات والقرارات والآليات التي جعلت النجاح سهلا لطال الحديث، لكن المبادرة الأقوى والأكثر تأثيرا كانت نظام التقييم المستمر الذي بدأت الوزارة في التخلي عن جزء كبير منه بعد أن أثبت ضرره الكبير على مخرجات التعليم، ربما لأسباب متعلقة بطبيعة المجتمع السعودي ونظام التعليم فيه وليس بسبب التقييم المستمر ذاته.
نجاح الطلاب ليس إلزاميا يفرضه النظام على المدارس والمعلمين، لكنه أصبح عرفا خلال سنوات من المبادرات التي تبنتها الوزارة لجعل التعليم أكثر سهولة ومتعة للطالب. حتى أصبحت عبارات من قبيل (سددوا وقاربوا) كضوء أخضر للمعلم والمدرسة بالتجاوز عن الطلاب، وأصبح المعلم يجد حرجا في رسوب الطلاب في مادته. والأسر فهمت التقييم المستمر وكل المبادرات الأخرى على أن نجاح الطالب حق من حقوقه الواجبة، لذلك لم يعد الطالب وأسرته يتوقعون الرسوب، وأن مزيدا من الاجتهاد الذي يبذله الطالب هو من أجل مزيد من الدرجات فقط وليس من أجل النجاح. بل تعدى الأمر إلى الجهات الإشرافية والرقابية في التعليم التي لم تعد تتوقع رسوب بين الطلاب.
نتائج خطيرة جدا تسبب بها النجاح السهل في التعليم العام. أول تلك النتائج فقدان معظم الطلاب رغبتهم في بذل الجهد في التعلم، وفقدان الحماس للإنجاز والتميز. لذلك يتخرج عدد كبير منهم بمهارات تعلم ضعيفة جدا. ويستمر ذلك الضعف مع معظمهم إلى التعليم الجامعي. لذلك تأثر التعليم الجامعي بمخرجات التعليم العام، مما نتج عنه تدني مستوى الطلاب في التعليم العالي بمرور الزمن. كما أن عدوى النجاح السهل وصل لبعض الجامعات خصوصا الصغيرة، لأن تطبيق المعايير الصحيحة للنجاح فيها قد يتسبب بكارثة بين طلابها. النتيجة بالمجمل تدني مستوى مخرجات التعليم العالي، ومشكلات في سوق العمل. فكيف حدث ذلك؟
النجاح السهل مكن عدد كبير من الطلاب من الوصول إلى الجامعات وهم لا يستحقون الالتحاق بها. وذلك أدى إلى اكتظاظ الكليات الأقل جدوى للاقتصاد والأقل طلبا في سوق العمل بهم، والذين يمثلون النسبة الأكبر من طلاب التعليم العالي في المملكة. وهؤلاء عندما يتجهون لسوق العمل يكونون بمهارات المرحلة الثانوية بالنسبة للسوق، لكنهم بشهادات عليا. مما أدى إلى ارتفاع تكلفتهم مقارنة بمهاراتهم الفعلية. النتيجة أن أولئك الخريجين بأعدادهم الكبيرة جدا مثلوا المشكلة الأساسية لتوظيف السعوديين. حيث أنهم لا يقبلون بمهن بسيطة وأجور منخفضة كونهم يحملون شهادات عليا، ولا يقبل بهم السوق لأن مهاراتهم أقل من المهن العليا وأجورهم أعلى من المهن البسيطة. كما أن بعضهم لا يقبل بالمهن التي تتطلب جهدا كبيرا وإن كان عائدها مرتفعا، فمن تعود على عدم بذل الجهد لأكثر من عشرين سنة ليس من السهل عليه تغيير ما تعود عليه. ويتوقعون دائما الحلول السهلة التي تصب في صالحهم كما تعودوا عليها طوال حياتهم السابقة.
من الآثار السلبية جدا لتلك المشكلة حرمان سوق العمل من العمالة السعودية في المهن المختلفة والعمل الحر، ممن كان يجب أن يتجهوا للكليات والمعاهد المهنية، أو لسوق العمل مباشرة بعد المرحلة الثانوية. بل إن أولئك في واقع الأمر حرموا أنفسهم سنوات من كسب الرزق والخبرة وتطوير مهارات العمل المجدي لهم فيما لو اتجهوا لسوق العمل دون الذهاب للدراسة الجامعية غير المجدية، والمكلفة لهم وللدولة و للاقتصاد من عدة جوانب.
النتيجة الأخيرة التي قد لا ترى بوضوح هي تضخم المستوى المعيشي للمجتمع تبعا للمستوى التعليمي بما لا يتوافق مع معدل الإنتاج الفعلي المقابل له في الاقتصاد. ويتحمل قطاع النفط النسبة الأكبر من ذلك التضخم المعيشي.
لذلك أنصح وبشدة بإعادة النظر في آليات النجاح في التعليم العام بما يخدم جودة التعليم، من خلال رفع متطلبات النجاح بشكل عملي. كما أنصح برفع متطلبات الالتحاق بالتعليم العالي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال