الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عند قراءة الكثير من البرامج الاقتصادية والتنموية التي تعدها الدول للنهوض باقتصادها وبمستوى ابنائها العلمي والثقافي، نرى برامج ذات محتوى طموح و لكن عندما ننظر الى التطبيق، نجد ان المؤسسات تعاني الكثير من الصعوبات من اجل تحقيق اجندة هذه البرامج، وعند تتبع نتائجها، نجد ان معدل نجاح البرامج ضئيل جدا، او قد تكون النتائج مبهرة لكن هذه النتائج يترتب عليها خلق مشاكل اقتصادية وتشريعية وبيروقراطية. وهذه مشكلة اكاد اجزم ان جميع دول العالم، بدأ من العالم الأول، و وصولا الى العالم الثالث قد عانى او لازال يعاني منها. قد يكون فشل هذه البرامج يعود الى عدم جديتها، و ليس محور حديثنا، وقد يعود سبب الفشل على تطبيق مبادئ الحوكمة التقليدية. لذلك لابد من قراءة التاريخ لتفادي التطبيق التقليدي لمصطلح الحوكمة على البرامج التنموية والاقتصادية وعلى رأس هذه القائمة رؤية المملكة العربية السعودية 2030.
في عام 1963 تولى الرئيس الأمريكي ليندون جونسون رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية بعد اغتيال الرئيس كينيدي. كان جونسون يحظى بقبول شعبي كبير بسبب برنامج ” المجتمع العظيم”, نتج عن هذا البرنامج قرابة ال200 قانون و مجموعة من البرامج التنموية والاقتصادية المحلية التي تستهدف القضاء على الفقر والتمييز العنصري، وتقليل البطالة، وتحسين المستوى الاقتصادي للشعب الأمريكي ورفع مستوى الرفاهية والصحة.
تم تحقيق هذه الأهداف عن طريق التركيز على رفع جودة التعليم والرعاية الصحية وتدريب أبناء الشعب وتطوير مهاراتهم العملية لضمان جودة انتاجيتهم عند توظيفهم، صيانة الكثير من المدن الامريكية والتي كانت تعاني من تهالك البنية التحتية بسبب الحرب العالمية الثانية، رعاية الفن والاهتمام بالفنانين، الاهتمام بالبيئة … كذلك تم توقيع قانون الحقوق المدنية والذي يستهدف القضاء على التمييز العنصري ونظام الفرص الاقتصادية …الخ من التشريعات المتعلقة بتشجيع الاستثمار وتنظيم الهجرة والصحة والتعليم. بالمختصر، برنامج ” المجتمع العظيم” كان يحتوي على الكثير من الأهداف البناءة والتي تساهم في تطوير المجتمع الامريكي فكرياً واقتصادياً و تشريعياً. وتحقيقاً لهذه الأهداف الطموحة، تم انشاء مؤسسة حكومية واطلق عليها “مكتب الفرص الاقتصادية”.
و بالفعل، بدأ العمل بهذا البرنامج بشكل جدي، وقد لاقى نجاحاً مرضياً للمستفيدين حيث انخفض معدل البطالة، ارتفع مستوى التعليم، انخفض التمييز العنصري بين أبناء الشعب، تم صيانة المدن التي تعاني من بنية تحتية متهالكة، انخفض معدل الفقر من 20% الى 12% … وغيرها من النتائج المرضية لهذا البرنامج. لكن بعد مضي مدة على رئاسة جونسون،بدأت الصعوبات وبدأ الضغط يزداد عليه بسبب برنامج “المجتمع العظيم”، حيث ان امريكا كانت مشاركة في حرب فيتنام، وهذا البرنامج الداخلي تطبيقة ادى الى خلق مشاكل تتعلق بالميزانية بالاضافة الى انه عزز البيروقراطية في منشآت الدولة حيث كان الهدف الأساسي هو فقط تحقيق النتائج من دون الالتفات على رسم استراتيجية مناسبة تقلل من ظهور مشاكل قانونية و ادارية مثل البيروقراطية ومشكلة الوكالة التي تم الحديث عنها في المقال السابق. أرجع بعض الباحثين ان المشكلة هو مع تطبيق الحوكمة التقليدية والتي تعني تركيز مهام تحقيق اهداف البرنامج على جهة واحدة. حيث تم إنشاء مكتب الفرص الاقتصادية، والتركيز على تنمية مهارات محددة بذاتها، وعدم إشراك القطاع الخاص في مساعدة الدولة لانجاح البرنامج، والاعتماد الكلي على مسألة المركزية في الإدارة مما نتج عنها إصدار الأوامر الادارية وفرض السيطرة من دون استطلاع الآراء حول أسلوب تنفيذ البرنامج مما زاد البيروقراطية وخلق مشكلة الوكالة. لذلك تم تفكيك المكتب في عام 1969 بعد ما جاء الرئيس نيكسون، وإلغاء بعض البرامج التي كان برنامج المجتمع العظيم يعمل عليها، مع الإبقاء على بعضها والتي لازال يتم العمل بها الى يومنا هذا.
المشاكل التي نتجت عن برنامج ” المجتمع العظيم” في الواقع ليست فقط بسبب تطبيق الأسلوب التقليدي للحوكمة، وإنما بسبب استخدام هذا النمط التقليدي في وقت كانت البيئة السياسية والعلاقات الدولية لا تسمح بذلك لأن الدولة كانت تعاني من استنزاف مادي لخزينتها بسبب حرب فيتنام وكانت طريقة ادارة البرنامج لا تتناسب مع الوضع الاقتصادي ولا مع الوضع السياسي للدولة. وقد تكون الحسنة في عدم نجاح ادارة هذا البرنامج هو استنتاج الأسلوب الحديث للحوكمة والذي يعتمد على طرح أساليب و أدوات متعددة لتحقيق الأهداف. وبالتالي، بدلا من التركيز على تحقيق هدف البرنامج الاقتصادي وعلى المؤسسة المنوط بها هذا العمل، يتم التركيز على الأدوات المستخدمة لتنفيذ هذه الاهداف وتحليل مدى نجاح كل أداة على حدة. ميزة تنوع الأدوات المستخدمة للوصول للنتائج المرجوة من أي مشروع أو برنامج إقتصادي أو تنموي، هي إختيار الأداة التي تتناسب مع الوضع السياسي والاقتصادي و القانوني. كذلك، الحوكمة الحديثة للقطاع العام وللبرامج التنموية والاقتصادية تعزز التعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص لتحقيق الأهداف. ايضا، استخدام مبادئ الحوكمة الحديثة لإنجاح مثل هذه البرامج يعتمد على تبني المواهب وتعزيز المهارات بكافة اشكالها وعدم فرض تعلم مهارات معينة. و أخيراً وليس آخراً، من مبادئ الحوكمة الحديثة هو قياس مدى رضا العاملين على مثل هذه البرامج و المستفيدين منها من أبناء الشعب وبالتالي تقليل المركزية وتعزيز اللامركزية في الادارة.
الحوكمة الحديثة لا تعني فشل أسلوب الحوكمة التقليدية، ولكنها تعني انه يجب اختيار الأسلوب المناسب للإدارة بما يتوافق مع المناخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي و السياسي. خصوصا ان البرامج التنموية والاقتصادية هي برامج تعبر عن طموح القادة، وتعبر عن الاهتمام بالسياسة الداخلية والشعب، لذلك، لابد عند بداية العمل فيها أن لا يتم التركيز فقط على الهدف من دون التركيز على أسلوب الادارة، والنظام التشريعي. لأن الهدف هو ضمان تحقيق نتائج مبهرة من دون خلق مشاكل قانونية واقتصادية جديدة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال