الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لم تكنْ جائحة فيروس كورونا أزمةً عابرةً على المستوى القانوني، بل إنَّها أثَّرتْ بشكلٍ جذريٍّ في المبادئ القانونية التي كانت مستقرَّةً لعقودٍ؛ فمثلاً كان مبدأ حرية العقد من أهمِّ المبادئ التي تحكم العلاقة التعاقدية، حيث يقوم طرفَيْ العقد بتحديد البنود التي يَرضَىْ بها كلٌّ منهما، ذلك بما لا يُخالِفُ النظام العام.
وعندما كان يَحِيُن موعد تنفيذ العقد، لم يكنْ من المقبول لأيٍّ من المتعاقدَيْن التهرُّب من التزاماتهما عبر تقديم الحجج والمُبرِّرات، حتى أنَّ القضاء يَكفَلُ تنفيذ العقد الصحيح على ما اشتَمَلَ عليه دون تعديلٍ.
إلاَّ أنَّ انتشار فيروس كورونا، أظهَرَ في الواقع إمكانية نشوء ظروفٍ عامةٍ مفاجئةٍ تَقِفُ عثرةً في وجه تنفيذ العقود بشكلٍ لا يُحتَمَلُ، وتَجعلُ من مُجرَّد الحديث عن تنفيذ العقد أمراً غير منطقيٍّ.
فهل يمكن للمورِّد المُتعَاقِدِ مع تاجر التجزئة توريد بضائعٍ لبنانيةٍ خلال الإغلاق التامِّ في لبنان مثلاً؟، وإذا استبدل المورِّد بلد المنشأ ألن يُغيِّرَ ذلك من قيمة البضائع بشكلٍ جوهريٍّ؟
الحقيقة، أنَّ الاختلاف الجذريَّ للظروف بين وقت توقيع العقد وبين وقت تنفيذه أصبح أمراً أساسياً في إتاحة المجال لتعديل التزامات العقد وفقاً للظروف.
والسبب وراءَ اتِّساعِ النقاشِ والجدالِ في هذا الموضوع هو انتشار الظروف الطارئة أو القاهرة على مستوى عامٍّ ودوليٍّ، أمَّا في السابق فقد كانت تظهر حالاتٌ نادرةٌ يتمُّ معالجتها -بالمعظم- عبر التراضي أو عبر احترام العقد وخسارة الطرف الذي تغيَّرت الظروف في غير مصلحته.
أمَّا بصدد جائحة كورونا، فإنَّ الارتكاز على فكرة أنَّ هامِشَ المخاطرة موجودٌ في معظم العقود وفي العقود التجارية بصفةٍ خاصَّةٍ، فهو أمرٌ غير مقبولٍ، والسبب أن ترك فئاتٍ واسعةٍ من المجتمع للخسائر الجسيمة سيؤدِّي إلى الإضرار بتوازن الموارد لدى شريحةٍ اجتماعيةٍ كبيرةٍ من الناس، الأمر الذي سيُرخِي بظلاله على اقتصاد الدولة بالنتيجة.
بناءً عليه، كان لا بدَّ من منظومةٍ قضائيةٍ جديدةٍ مُتكاملةٍ لبحث العقود والالتزامات التي تأثَّرت بأزمة كورونا.
ولهذا، فقد أصدرت المحكمة العليا مؤخَّراً مجموعةً من المبادئ القضائية بغرض توحيد قواعد التعامل مع العقود المتأثِّرة بالجائحة، وذلك بالقرار رقم 45/م بتاريخ 8-5-1442هـ، كالتالي:
– نطاق التطبيق (أولاً، القرار):
*العقود التي تأثَّرت بقوةٍ قاهرةٍ جعلت من تنفيذها أمراً مستحيلاً؛ كأن يكون العقد على توصيل الطلبات في فترةٍ زمنيةٍ مُحدَّدةٍ صَدَرَ فيها أمرٌ بالإغلاق الكلِّيِّ وحظر التجول.
*العقود التي تأثَّرت بظروفٍ طارئةٍ أدَّت إلى خسائرٍ غير معتادةٍ خلال تنفيذها؛ كأنْ تُصبِحَ تكلفةُ توريدِ الموادِ الطبية مثل الكمَّامة أغلى بشكلٍ كبيرٍ جداً على المورِّد بعد انتهاء كميَّتها من بلد المنشأ الآسيوي، واضطراره إلى توريدها من منشأٍ أوروبيٍّ.
الشروط (أولاً، القرار):
*أن يكون العقد مُبرمَاً قبل الجائحة، ولكن امتدَّ تنفيذه خلالها؛ فهي العقود التي لم يضعْ كلا المتعاقدَيْن في حسبانهما إمكانية ظهور جائحة عند توقيعهِمَا العقد، أمَّا العقود التالية لظهور الجائحة فلا مجال للحديث فيها عن الظروف؛ لأنَّ المتعاقدَيْن علما بالجائحة، وأصبحت ظروفها جزء من الاتفاق، وتمَّ تحديد البنود على أساس آثارها.
*أن يكون أثر الجائحة مباشراً على العقد دون إمكانية تلافيه؛ أمَّا إذا كان بإمكان المتعاقِدُ المُتضرِّر القيام بإجراءاتٍ تُعفِيهِ من آثار الجائحة، فلا مجال في هذه الحالة للحديث عن الظروف؛ كأن يقوم المورِّد بتغيير بلد المنشأ دون أية تكلفةٍ زائدةٍ.
*أن يكون أثر الجائحة مُستَقِلاًّ دون سببٍ آخر؛ فإذا كان سبب الضرر الذي لَحِقَ بالمتعاقد راجعاً لخطأ ارتكبه هو، فلا يجوز حينها تطبيق أحكام الظروف الطارئة أو القاهرة.
*ألاَّ يتم الصلح أو تنازل المُتضرِّر من الجائحة عن حقِّه؛ وهذا شرطٌ بديهيٌّ ينبع من الطبيعة الاتفاقية لإسقاط الحقِّ عن وعيٍ وإرادةٍ.
ألاَّ يوجدُ نظامٌ أو قرارٌ آخر مُختصٌّ بتنظيم آثار الجائحة؛ ففي هذه الحالة يتمُّ تطبيق النص الخاصِّ قبل هذه القواعد العامة لظروف الجوائح.
-الأثر (ثانياً، القرار):
*بعد أن تتأكَّد المحكمة المُختصَّة من انطباق النزاع على الحالات المتضمَّنة بآثار الجائحة، عليها أن تقوم بما أطلَقَتْ عليه المحكمة العليا: “الموازنة”، وهو إجراءٌ يتضمَّن:
*تحقيق التوازن بين مصالح طَرَفَيْ العقد، ذلك بالنظر إلى ظروف الجائحة التي طرأت على العقد.
*تعديل الالتزامات التعاقدية بما يُحقِّق العدل لطرفي العقد، وهذا ما يَسمَحُ للمحكمة تغيير بنود الاتِّفاق المبرم قبل انتشار الجائحة.
وبهذه الطريقة يُمكن للمحكمة أن تُخفِّضَ من قيمة الأجرة بالنظر لانخفاض الفائدة من العقار المؤجَّر مثلاً، أو زيادة مبلغ التوريدات بالنظر لارتفاع التكلفة وغيرها من الحالات المشابهة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال