الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هيَّأت الثورة الصناعيَّة مستلزمات تكوُّن التجمَّعات الحضريَّة الكبيرة، وحوَّلت التجمُّعات الزراعيَّة الى مجتمعات حضريَّة مدنيَّة؛ “مجتمع المدينة المدني”. وأدَّت كذلك الى انبثاق عدد من التكتُّلات الصناعيَّة، والمدن التجاريَّة المرتبطة بشبكة مواصلات ونقل واسعة. فغالبيَّة المدن والحواضرالأُروبيَّة الغربيَّة الكبيرة ، كانت قد نشأت بأثرانطلاق (الثورة الصناعيَّة)، وبروز تكتُلات صناعيَّة ذات كثافة سكَّانيَّة مرتفعة.
استحوذ تشخيص أسباب تكتُّل “Cluster” المنشآت والمصانع المتنافسة والمنتجة لسلع متجانسة، وتحديد أهميَّة التكتُّل الصناعي في نشوء المدن، على اهتمام خبراء الاقتصاد الحضري، فقدُّموا تفسيرات مقبولة للتناقضات النظريَّة بين فرضيَّات الاقتصاد الجزئي، وتكتُّل المنشآت المتجانسة. ووفقًا لنظريَّة المنشأة، تتنافس المصانع المنتجة سلعًا متجانسة للحصول على عناصر الإنتاج والسيطرة على السوق، أو على حصَّة سوقيَّة محدَّدة . فإذا افترضنا – لغرض التبسيط – وجود منشأتين تعملان في إقليم واحد، يتطلَّب مبدأ تعظيم الربحيَّة انفراد كلِّ منشأة بجزء من الإقليم، واحتكار سوقه. إلَّا أنَّ التجارب التاريخيَّة لنشوء المدن الصناعيَّة تناقض هذه الفرضيَّة. فالمنشآت المتنافسة، تكتَّلت ومارست نشاطها في حيِّز مكاني واحد! لذا، كيف يتمُّ تفسير تكتُّل منشآت متنافسة في نطاق ضيِّق وسوق واحد؟ تُعزى أسباب ذلك إلى المنافع الاقتصاديَّة المكتسبة من تكتُّل منشآت تنتمي إلى قطاع محدَّدٍ، وأبرزها:
أوَّلًا: الانتفاع من الاستخدام المشترك للسلع الوسيطة. فقد أتاح التكتَّل المناطقي للمنشآت المتنافسة فرصة الاشتراك في استخدام سلعة وسيطة مصنَّعة من إحدى المنشات العاملة في الحيِّز المكاني. مصانع الألبسة الجاهزة، على سبيل المثال، غالبًا ما تتكتَّل حول مصانع الأنسجة؛ “السلعة الوسيطة “.
ثانيًا، الاستفادة من مجمَّع العمل؛” “Labor Pool المتواجد في مناطق التكتُّل الصناعي. التواجد بقرب مجمع العمل يسهِّل حصول المنشآت على الموارد البشريَّة المؤهَّلة بأجورمعتدلة. كذلك يسهِّل التكتل الصناعي انتقال العاملين بين المنشآت، وانتقالهم من المتعثِّرة منها إلى الناجحة خاصَّة.
ثالثًا، انتقال المعرفة والخبرة، ” Knowledge Spillovers”. سهولة اكتساب الخبرات والحصول على عناصر المعرفة والتقنيات الحديثة، يسهم في ولادة منشآت جديدة في القطاعات التي تستخدم خرِّيجي المعاهد والجامعات. وقد برهنت دراسات عدَّة أهمِّية عامل نقل المعرفة في اختيار موقع نشاط المنشآت التقنية والمعرفيَّة. فمنشآت الابتكار والتقنيات غالبًا ما تتكتَّل في مدينة، أو في مركز حضري واحد.
ما يهمُنا في هذا السياق؛ تشخيص دور التكتُل الصناعي في نشوء المدن. لقد مكَّن التكتُّل الموقعي المنشآت الخاصَّة من زيادة إنتاجها، وتحسين إنتاجيَّة العامل، وخفض كلف الإنتاج، وزيادة الإيرادات وهامش الربح . تكتُّل المنشآت أفضى أيضًا إلى تصاعد عدد المنتجين واتِّساع القطاع، وتوسع سوق العمل. هذه العوامل مجتمعة، أفضت إلى ارتفاع الكثافة السكانيَّة، ونموِّ الأسواق، ونشوء المدن الصناعيَّة.
إلى جانب تحليل دورالتكتَّل الصناعي في قيام المدن. وبسبب الكلف الاجتماعيَّة المترتِّبة عن الزحف العمراني، وتأثير توسع نطاق المدينة في منفعة السكَّان ومستوى رفاهية المجتمع، اهتمَّ خبراء الاقتصاد الحضري بحجم المدينة ونموِّها. كذلك من جرَّاء القلق المتولَّد عن تغطية نفقات السلع العامة؛ البُنى التحتيَّة والصحَّة العامَّة والدفاع المدني والتعليم، والمؤسّسات الثقافيَّة والمرافق الترفيهيَّة، والأمن المجتمعي، وغيرها من السلع العامَّة. تمويل السلع العامَّة يتم – كما هو معروف – من حصيلة الضرائب الحكوميَّة التي تؤثِّر زيادتها سلبًا في مستوى معيشة الأفراد، وإنتاج المنشآت، ورفاهيَّة المجتمع.
لحجم المدينة ثلاث جوانب تستحقُّ الدراسة والتحليل: الجانب الأوَّل، يكمن في تحديد العوامل الاقتصاديَّة المحدِّدة لحجم المدينة، وأسباب التباين في أحجام المدن . أمَّا الثاني، فينصبُّ على تحديد الحجم المثالي للمدينة، في حين يهتم الثالث في قياس المنافع الناجمة عن توسيع حجم المدينة، وكلف التوسُّع الاجتماعيَّة.
لماذا تتباين أحجام المدن؟ يرجع تباين أحجام المدن ونموَّها إلى مجموعة من المتغيِّرات الاقتصاديَّة، أهمٌّها التكتُل الصناعي المكاني الذي يؤدِّي إلى زيادة مستويات الإنتاجيَّة، والإنتاج والمبيعات والربحيَّة، وحجم الطلب على العمل. كما يرفع مستوى الأجور في المدينة عن السائد في المدن الصغيرة المجاورة. هذه الفجوة في مستوى الأجور، تجذب مجموعاتٍ سكانيَّةً جديدةً إلى المدينة، وبدورها، تخلق طلبًا مضافًا على السلع والخدمات، وتحدث دورة جديدة من زيادة حجم الإنتاج والطلب على العمل ومستوى الاجور، وتحفَّز تدفُّق سكاني جديد.
هذا الزحف الحضري المتزايد والنموُّ المتواصل في اقتصاد المدن الكبيرة وحجمها خلال العقود المنصرمة، قابله تقلُّص عدد سكَّان المدن المتوسطة والصغيرة من جرَّاء هجرة قوَّة العمل إلى المدن الكبيرة، فأدَّت إلى عدم استقرار اقتصاد تلك المدن، وتآكلِ حجمها.
إلى جانب دورعامل الهجرة الداخليَّة في تباين أحجام المدن، قُدِّمت تفسيرات أُخرى للتباين… منها التفسير الذي قدَمته نظريَّة ” قاعدة الصادرات” التي تُعزي سبب تباين معدَّلات نموِّ المدن إلى اختلاف حجم الطلب الخارجي على السلع المصنَّعة داخل المدن.
التحليل السابق، يقودنا إلى التساؤل عن الحجم الأمثل! أوالحجم التوازني للمدينة؟ سؤال تاريخي عجز الباحثون عن تقديم ردودٍ علميَة مقنعة لهذا السؤال المهم. فقد اعتقد الفيلسوف “أفلاطون” أنَّ مدينة- (في عصـره) – تضمُّ ما يقارب خمسة آلاف مواطنٍ، تعدُّ مدينة مثالية الحجم. هذا الرقم لم يشمل الإناث والعبيد. وفي كتابه الشهير “السياسة”، تطرَّق “ارسطو” إلى موضوع حجم المدينة، لكنَّه لم يورد أرقامًا محدَّدة، بل حبَّذ فكرة تحديد عدد سكَّان المدينة ومساحتها الجغرافيَّة.
لا شكَّ أن صعوبة الوصول لتقدير الحجم الأمثل للمدينة، مردُّه عدم توفُّر”مقاييس كميَّة” علميَّة يمكن اعتمادها في تحديد الحجم الأمثل للمدينة. لكن “الاقتصاد الحضري”، وفَّر معيارًا نظريَّا متَّفقًا عليه مستندًا على مقارنة المنافع الاجتماعيَّة الناجمة عن توسيع حجم المدينة بالكلف الاجتماعيَّة المتأتِّيةِ عن التوسُّع. تنمية حجم المدينة مطلوب، ويعدُّ ضرورة اقتصاديَّة إذا ما زادت منافع التوسُّع الاجتماعيَّة عن الكلف.
الحجم المثالي، أوالتوازني للمدينة، يتوقَّف في نهاية الأمرعلى مستوى الرفاهية التي تسعى لتحقيقه قيادة المجتمع السياسيَّة والاقتصاديَّة، وعلى توفُّر الموارد الاقتصاديَّة.
(يتبع)
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال