الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
كنت استمع في السيارة كعادتي إلى أحد برامج البودكاست التي سرقت اهتمامنا من الراديو والتسجيلات الصوتية وإذ بالرئيس التنفيذي للشركة الوطنية للتصنيع سعادة المهندس مطلق المريشد يقدم رحلته المهنية والإدارية المتميزة بشكل عفوي وجذاب لفت نظري واستلهمني لكتابة هذه المقالة. وهو يستعرض أسلوبه الإداري وتوجهاته التنفيذية توقف عند أحد القصص التي تعلم منها درساً خاصاً وذلك حين أستبعد أحد المدراء الذين كان يعمل لديهم ثلاثة موظفين من فريقه وذلك لممارستهم سلوك غير مناسب (غير أخلاقي) وعزز ذلك الدرس بقوله أنه يؤمن بأن الأخلاق تأتي أولاً ثم بعد ذلك المعرفة الفنية، واتبع حديثه الشيق باقتباس ملهم للملياردير الشهير وورن بوفيت حين قال “أُفضِل بأن يكون لدي موظف عادي وأخلاقي على أن يكون لدي موظف ذكي وغير أخلاقي”.
ورغم حساسية هذا المبدأ الرائع “الأخلاق” إلا أنه يلقى الكثير من الإهمال أو التجاهل الغير مقصود نظراً لكونه لا ينتج “مالاً” بشكل مباشر وأحياناً قد يمنع فرصاً ومصالح. فأذكر أحد الأكاديميين العرب وهو يستمع لموضوع بحث في مجال المحاسبة وله بعدٌ أخلاقي كنتُ قد عرضته في أحد ورش العمل في المملكة المتحدة، فما إن انتهيت عارضاً حتى تقدم إلي وقال بنبرة الناصح الأمين “الأخلاق ما توكل عيش”! عبارته لم استطع أن اتجاوزها ولكنها أصلت لدي أهمية الأمر وفداحة تجاهله واهماله خصوصا حين يكون الحديث عن بيئة الأعمال وتحديداً عن مهنة المحاسبة والمراجعة.
يوسف عليه السلام حين سأل الله بأن يكون أميناً (وصياً) على خزائن الأرض أردف طلبه بقوله “إني حفيظ عليم”، فلم يكن العلم كافياً لوحده، والصفات التي وجه إليها الشارع بأن تكون في كاتب الدين تلخصت في صفة العدالة والأمانة “وليكتب بينهما كاتب بالعدل”. وهذه القيم التي وجد الناس أهميتها من قديم الأزل فيمن يوكل إليهم مهمة حفظ الأموال والكتابة لا تغيب اليوم عن المبادئ المهنية والقواعد والآداب السلوكية في مهنة المحاسبة والمراجعة؛ حيث نجدها بشكل أو بآخر في مبادئ الأمانة والموضوعية والسرية والكفاءة المهنية.
وقد أولت الجهات التنظيمية المسؤولة عن الإشراف على مهنة المحاسبة والمراجعة وتنظيمها وتطويرها ومن ذلك الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين هذا الأمر أهمية خاصة من خلال استصدار قواعد وآداب سلوكية ملزمة للممارسين لمهنة المحاسبة والمراجعة. فمنذ صدور نظام مهنة المحاسبة والمراجعة وتكليف الهيئة بمسؤولية المهنة أُصدرت قواعد وآداب سلوك مهني محلية تتناغم مع البيئة المحلية وحال المهنة اليافع في ذلك الوقت وتقتدي بالتجارب في دول أخرى متقدمة سابقة في مجال المهنة. واستمر العمل بتلك القواعد حتى اعتمدت الهيئة مؤخراً التحول إلى قواعد وآداب سلوك المهنة الدولية (والمتوقع نفاذ تطبيقها في 1/ 7/ 2022م) كجزء من جهودها المستمرة في تبني أفضل الممارسات الدولية التي من شأنها المساهمة في تطوير مهنة المحاسبة والمراجعة بشكل يتسق مع التطور المطرد في اقتصاد المملكة وينسجم مع مستهداف رؤية المملكة 2030 التي تشمل أهمية تحسين جودة البيانات المالية التي هي نهايةً منتج أعمال المحاسبين والمراجعين. فلم تكتفي الهيئة بتبني المعايير الفنية ذات الجودة العالية (معايير التقرير المالي الدولية ومعايير المراجعة الدولية) بل أيضا أكملت هذه الجهود بتنبي مبادئ سلوك مهنة ذات جودة عالية كونها تأتي كمستخلص جهود وتجارب دولية؛ جَهِدَ الاتحاد الدولي للمحاسبة ممثلا في المجلس الدولي لأخلاقيات مهنة المحاسبة إلى تقنينها في شكل قواعد وآداب سلوكية دولية.
السؤال الذي قد يتبادر مباشرة إلى ذهن بعض المحاسبين؛ المبادئ هي المبادئ والقيم هي القيم، فما الذي تغير مع هذا الاعتماد للميثاق الدولي لأخلاقيات مهنة المحاسبة والمراجعة؟ المزايا متعددة ولكن ما اعتقد شخصياً أنه الميزة الأهم والقيمة المضافة يمكن عكسه في أمرين:
الأول: هو أن هذه المبادئ اكتسبت جودتها من كونها مستخلص تجارب متنوعة ومتعددة ودولية وهي بذلك تفصيلية وشمولية تغطي مختلف الظروف والحالات التي يمكن أن تواجه المحاسب المهني. فسوف تُوَسِع هذه القواعد الدولية من مفهوم الالتزام بمبادئ القواعد الأخلاقية إلى أن يكون غير مقتصر فقط على الأعضاء الممارسين (المحاسبين القانونيين) بل إلى كل ممتهن لمهنة المحاسب كشخص متخصص او ممارس لعمل محاسبي سواء في القطاع العام أو الخاص أو حتى الغير ربحي. وبرأيي أن هذه الشمولية مهمة حتى يتلمس المحاسبون دورهم ويحفظوا أماناتهم مهما كانت الظروف والضغوطات ومهما كان شكل العلاقة التعاقدية، فالمهنة رهينة سلوكياتهم وتصرفاتهم. فمع كل فشل محاسبي أو ما يسمى بالفضيحة المحاسبية تستدعى المهنة بكاملها إلى المحاكمة من قبل أصحاب المصلحة، وهذا التوسع برأيي سيجعل الجميع من المحاسبين يستشعر حجم المسؤولية والانتماء المهني.
الثاني هو أن المجلس الدولي لأخلاقيات المهنة حاول في ظل جهوده لتطوير القواعد وزيادة مستوى الالتزام بها إلى تحويل المبادئ والقيم الأخلاقية من الهيكل التنظيري البحت إلى العملية وملامسة الواقع. فحتى تكون هذه القواعد أكثر مناسبة للفهم والتطبيق، عَمِدَ المجلس إلى إضافة العديد من الشروحات والمواد التطبيقية ضمن دليل قواعد وآداب سلوك المهنة الدولي. وأهم من ذلك طور المجلس وحدد الإطار المفاهيمي لقواعد وآداب سلوك المهنة والذي يعطي المحاسب المهني آداه عملية يمكن له أن يستخدمها لإدارة المخاطر الأخلاقية (تهديدات) التي يمكن أن تهدد مدى التزامه وتقيده بالمبادئ الأساسية للسلوك المهني المقبول.
فالإطار المفاهيمي يرشد المحاسب المهني إلى ضرورة البقاء منتبهاً إلى كل الظروف التي يمكن أن ينشأ عنها تهديدات سواء كانت تلك التهديدات متعلقة بالمصلحة الشخصية أو المصلحة المالية أو الألفة أو التأييد أو الفحص الذاتي أو الترهيب. ولا يقف الأمر عند الانتباه وتحديد إمكانية وجود التهديدات المؤثرة على التزامه بالمبادئ السلوكية بل يتعدى ذلك إلى تقييمها وتحديد الاستجابة (الإجراء) المناسب للتعامل معها سواء من خلال إزالتها أو خفضها إلى المستوى المقبول. فحين يجد المحاسب الذي يعمل في مؤسسة سواء في القطاع العام أو الخاص أنه أمام ظرف ينشأ عنه تهديدات متعلقة بالترهيب كطلب الإدارة التنفيذية الإعلان عن أرباح غير حقيقية أو مخالفة أحد الأنظمة، فعليه أن يقيم حجم الأثر على سلوكه المهني ويتخذ حكمه المهني بشأن الإجراء المناسب لمواجهة تلك التهديدات حتى لو كان ذلك الإجراء المطلوب هو الاستقالة وترك العمل!
خاتمة: يمكنني أن أقول قياساً على قول وورن بوفيت؛ في المحاسبة يجب أن نُفضِل المحاسب الأخلاقي وإن كانت كفاءته غير استثنائية على المحاسب صاحب الكفاءة الاستثنائية إن كانت تصرفاته غير أخلاقية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال