الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إن أكثر المواضيع المثيرة للجدل في مجال قوانين الشركات والأسواق المالية، تدور حول آلية معالجة انحراف حوكمة الشركة، وكيفية الوصول لذلك بأقل تكلفة اقتصادية وقانونية. بعبارة أخرى, كيف يمكن إعادة مسار الشركة؛ دون أن تكون الأداة المستخدمة لتحقيق ذلك، أكثر تكلفة من الانحراف نفسه. ومن المؤسف أن معظم الدراسات القانونية، تنطلق من أهمية حوكمة الشركات على المستوى العربي، وإغفال حالات عجز الحوكمة وانحراف مسار الشركة. في هذا المقال، سوف نعرض آلية حوكمية مفقودة بشكل عام في كثير من الأسواق المالية العربية، وفي السعودية بشكل خاص، ألا وهي آلية الحوكمة الخارجية؛ كما تتم ممارستها في الأسواق المتقدمة الامريكية والبريطانية، والتي تتم عبر الاستحواذ على الشركة، ومن ثم السيطرة على مجلس الإدارة والدعوة إلى جمعية عامة، وصعوبات تطبيقها مقارنة بالأنظمة الحالية.
بداية، ليس هناك شك, في الدور الكبير الذي تلعبه قواعد حوكمة الشركة، في رفع مستوى أداء الشركة, والتخفيف من حدة التعارض في المصالح بين المساهمين -المسيطرين-، مع المستثمرين الغير مسيطرين في الشركة ذاتها، البعيدين كل البعد عما يدور في داخل الشركة، ويفقدون الحافز في حضور جمعياتها أو الاطلاع على قوائمها المالية؛ لقلة الوقت أو الخبرة لديهم. وعلى رغم من مئات الكتب والبحوث القانونية؛ فحتى الآن لا يوجد تعريفًا قانونيًا متفقٌ عليه، دقيقًا وشاملًا يغطي جوانب الحوكمة. كل تعريف يظهر عليه شائبة يغفل جانب من جوانب الحوكمة. هناك تعريفًا لحوكمة الشركات أجده جذابًا إلى حدٍ كبير، يناسب حديثنا هنا، يعرِّفه الأستاذ الكبير جونثان مايسي في كتابه “حوكمة الشركات وعدًا حوفظ عليه, وعدًا تم اختراقه”. وبقراءة العنوان وكأن الكاتب يُشبِّه قواعد الحوكمة، مثل الوعد بمن يدير الشركة؛ فلن تعارض مصلحته مصلحة الشركة ومصلحة المساهمين بشكل أجمع.
بداية فكرة إلزامية قواعد حوكمة الشركات ليس بالأمر المتفق عليه. فهناك المنهج القانوني الحمائي، والذي يرى أهمية وضع قوانين ملزمة للشركات، تحترمها ولا تخرج عنها، خاصة الشركات المدرجة، وبين الفكر القانوني المتأثر بالنهج الاقتصادي، الذي يرى أن وضع مثل هذه القوانين ليست إلا عبئًا وتكلفة اقتصادية على الشركات؛ حيث تواجه كل شركة مخاطر مختلفة ومتعددة عن الأخرى. وعليه, ينطلق هذا الرأي من أنه، على المنظمين الاكتفاء بوضع قواعد أقل حدة وأكثر مرونة، ولكل شركة أن تنتقي ما يناسبها. وقد يتساءل القارئ، كيف ستكون مسألة الالتزام بهذه القواعد حسب هذا الاتجاه الأخير، والسبب في هذا الخروج، مقارنة بالاتجاه السابق القانوني الحمائي؛ أن آلية السوق ستعاقب الشركة التي لا تراعي معايير الحوكمة، وذلك بانخفاض أسعار الشركة، وهروب المستثمرين من الاستثمار فيها, هذا على فرضية الأخذ بفعالية كفاءة السوق العالية، بمعنى أن الأسعار ستعكس فعلًا القيمة العالية لحوكمة الشركة، بمعنى أن السوق ستفرق بين شركة وأخرى بناء على قواعد الحوكمة المختارة.
ودون الحاجة للدخول في هذه الخلافات المنهجية، في الفكر والتطبيق بين كلا الاتجاهين. فالمهم هو أن كليهما يتفقان على أهمية قواعد حوكمة الشركة، ولكن بدرجات متفاوتة، حسب مراحل نمو الشركة والهيكلة القانونية المختارة، – مسؤولية محدودة- على فرضية الحوكمة المناط تطبيقها هي لشركة غير مدرجة، والتي تخرج عن حديثنا، فلها تنظيم خاص ومعالجة في حال انحراف حوكمتها الداخلية، وذلك لا يختلف عن الشركات المساهمة المغلقة من ناحية المنهجية. فحديثنا منصب تمامًا على الشركة المساهمة المدرجة، والتي يتواجد فيها المساهم (المستثمر) من الأفراد، والذين غالبًا ليس لهم حيلة ولا قوة في تصحيح انحراف الشركة أو الحوكمة.
بالإضافة إلى هيكلية الشركة القانونية, يمكن القول أيضًا: إن لتنوع ملكية الشركة وفئات المسيطرين عليها، الأثر الآخر في مسألة ضبط أو زيادة انحراف حوكمة الشركة. بعبارة أخرى, فالقواعد الحوكمية المناسبة لشركة ناشئة؛ ستختلف دون شك عن شركة مساهمة تسيطر عليها عائلة مثلًا، أو مازال المؤسس يديرها أو أحد ابناؤه, أو تحت سيطرة صندوق استثماري أو حتى عدد من المساهمين، ولكن بنسب متفاوتة. فمثلًا شركة يسيطر عليها عدد من المساهمين، ولكن هناك كبار المسيطرين بنسب ٥٪-٨٪ متفاوتة، سيكون كل مساهمٍ مراقبًا للآخر؛ ما لم يكن بينهم تعاونًا على تعضيد مصالحهم الشخصية، على مصالح المساهمين.
والجدير بالذكر, لا ننسى حتى الشركات المملوكة للدولة، أو التي تشترك الدولة في تأسيسها؛ مما قد يترتب عليه أن يكون هناك قواعد حوكمية مختلفة عن تلك التي في الوضع التقليدي، عندما تكون أهداف الشركة الربح للمساهمين، قد لا يكون الغرض الرئيسي لمن يمثلون الدولة. فكيف يمكن حوكمة مثل هذه الشركة عندما تكون الأهداف الأساسية للمساهمين غير متجانسة. فعلى سبيل المثال, فمصلحة الحكومة زيادة التوظيف؛ بغض النظر عن التكلفة الاقتصادية لذلك، وهو ما لا يخدم المساهمين المستثمرين، والذين لا يهتمون إلا بالعوائد المالية، ويتضح ذلك جليًا في السوق الصينية، حيث اضطر المنظم إلى وضع أسهم بفئة A وبفئة B للأسهم المملوكة للدولة. وإشكالية الحوكمة والبيع لحصص الدولة الصينية.
ولكن المهم هنا, أن يلاحظ المتابع جٌل أدبيات الأطار القانوني لحوكمة الشركات، بالذات على المستوى العربي، إذ تقتصر في تفعيلها انطلاقًا من مكونات من داخل الشركة. فعلى سبيل المثال، نجد المحاولات التنظيمية في رفع تمثيل دور المساهمين لممارسة حقوقهم، التي يمنحها ملكية السهم من الحضور في الجمعيات والتصويت, تحفيز اللجان الداخلية، وزيادة الاستقلالية في أعضاءها, وتقليل تعارض المصالح بين من هم في إدارة الشركة، مع من هم خارج الشركة؛ عبر وضع لوائح وسياسة وإجراءات داخلية، وإفصاح عن معلومات محل التعارض، ومحاولة دفع المساهمين للتصويت عليها. بعبارة أخرى, تنطلق مسألة ضبط الحوكمة؛ عبر العلاقة القانونية بين مجلس الإدارة أو المساهم الأكثر سيطرة من جهة، وبين المستثمرين من جهة الأخرى, بانطلاقة متمركزة من داخل الشركة، على سبيل المثال، الإفصاح عن المعلومات, ضبط ذوي العلاقة عبر اللجان الداخلية، ورفع مستوى الاستقلالية في تلك اللجان. فكيف يتم تصحيح مسار الشركة إذا فشلت هذه المكونات الداخلية؟ وهذا ما تعانيه معظم الشركات في الأسواق العربية.
بعبارة أخرى, فإن السؤال الكبير، ماهو الحل لو فشلت هذه المكونات الداخلية في رفع مستوى حوكمة الشركة، وزاد الانحراف في الوعد الذي يذكره بروفسور جونثان في كتابه؟ وحتى محاولات التنظيمين كهيئة سوق المال، في تفعيل رقابتها الخارجية، لا شك يشوبها الكثير من الحرج من الأساس، كالدعوة على سبيل المثال إلى عقد جمعية عامة، مع رفض الإدارة الحالية عقد جمعية عامة عادية ممن يمكلون ٥٪ وأكثر، حسب ما يفرضه نظام الشركات ولائحة حوكمة الشركات. فهي قد تحتاج إلى التأكد على سبيل المثال، هل فعلًا ذلك المساهم مضاربًا أو ذو مصلحة شخصية تختلف عن مصلحة المساهمين والشركاء، وهذا فيه الدخول في النوايا، فضلًا عن الصعوبة العملية لممارسة سلطتها التقديرية. فمحاولتها عدم التدخل كمبدأ عام، مالم تقرر ممارسة سلطتها التقديرية، سيعضد مركز التنفيذين ومجالس الإدارات.
وحتى المراجع الخارجي، يتم تعيينه بناءً على ترشيح من مجلس إدارة الشركة, وسيكون المحك الاعتماد هنا على سمعة المؤسسة المالية. ورأينا الكثير من الفضائح على المستوى العالمي والمحلي. وحتى القضاء يتحرج في التدخل في العلاقة بين المساهمين ومجالس إدارتها، في عزل مثلًا مجالس إدارة الشركات، فضلًا عن صعوبة توقع النتائج في حال رفع المساهمون دعوى باسم الشركة ضد مجلس إدارة الشركة. وللأسف، حتى الدعاوى الجماعية ضد التنفيذيين، ليس لها الدور الكبير في معظم دول الخليج في تقليل هذا الانحراف في الحوكمة. وحتى مكاتب المحاماة العربية، لها دور ضئيل مقارنةً بنظيرتها في الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا في تمثيل المساهمين، وهذا سيتفاقم دون شك مع نظام التكاليف القضائية، الذي سيجعل الكثير من المكاتب تفكر ألف مرة قبل الدخول في ذلك المعترك.
لهذا عند فشل إصلاح حوكمة الشركة من الداخل، وتحوُّل تكلفة الإصلاح أعلى من تعديل انحراف الشركة؛ نرى الكثير من الأسواق المالية وعلى رأسها تحديدًا الأمريكية والبريطانية، تعتمد على ما يسمى بأسلوب الحوكمة من الخارج، وتحديدًا السيطرة على الشركة عبر الاستحواذ عليها. يتم ذلك من خلال السيطرة على مجلس إدارة الشركة ووضع أجندة المسيطر. ولكن الاستحواذ على الشركة من الخارج عبر أساليب السيطرة ليس بالأمر الهين، إذ تتداخل معها الكثير من القيود والأنظمة، مما يجعلها غير فعالة في كثير من الدول، ومنها السعودية.
فمثلًا، حتى يستطيع مشتري من الخارج السيطرة على الشركة من الخارج؛ فعليه الشراء من سوق الأسهم الحرة، ولكن هذا قد لا يكون متوفرًا في كثير من الشركات المسيطر عليها. وأيضًا قدرة المسيطر -حتى لو استطاع التملك أو السيطرة على الشركة- في الدعوة إلى الجمعية العامة العادية، ليست بالأمر الهين. فقد تجد عدم التعاون من المنظمين للأسواق المالية، على الرغم من تملك الشخص النسبة القانونية للدعوة إلى الجمعية العامة العادية حسب نظام الشركات، تحديدًا مادة التسعون منه، والتي تمنح على سبيل المثال هيئة سوق المال السلطة التقديرية في الدعوة إلى الجمعية العامة العادية؛ فعدم استجابة رئيس مجلس الإدارة مثلاً ، قد تشابه عدم الحماس من الهيئة مع ذلك المسيطر؛ حيث قد تراه هيئة سوق المال أقرب إلى المضارب. ولا ننسى أيضًا حق أعضاء مجالس الإدارة في المجلس الحالي بالمطالبة المالية، في حال قرر المسيطر عزلهم كما تقرر نصوص نظام الشركات، والذي لا يوجد نظيره مثلًا في السوق الأمريكي.
وأيضًا قد تقرر هيئة سوق المال في ممارسة سلطتها التقديرية، الطلب من هذا المسيطر شراء الأسهم المتبقية بنفس القيمة الذي اشتراها خلال السنة، حتى بمقابل نقدي كما تقرره لائحة الاندماج والاستحواذ. ولا ننسى التعاون السلبي الذي قد يجده المسيطر من مجلس الإدارة الحالي، أو قدرة المسيطر في التفاوض مع العمال في حال قرر دمج الشركة مع شركاته، والذي يلزم قانون العمل انتقال العقود كما هي. ولا ننسى تخوف الهيئات الحكومية من فتح باب الاستحواذ عبر أساليب السيطرة، من شراء الأصول عبر أجانب، وغيرها من العوامل التي قد تؤخر أو تعطل مسألة الاستحواذ لرفع قيمة الحوكمة.
فالمسيطر هدفه دون شك هو تحقيق الربح، فإصلاح الانحراف في الشركة سيواكبه ارتفاعًا في الأداء وفي سعر الشركة. ولكن المهم بشكل عام، أن المستحوذ يرى نصب عينه التكلفة الاقتصادية على عملية الاستحواذ، والعائد من ذلك يشابه تمامًا فكرة شراء البيت ثم إصلاحه. ففي النهاية إذا كانت تكلفة الإصلاح أقل من العائد المتوقع؛ سيعيد أي مستحوذ حساباته في السيطرة على الشركة. والتكلفة هذه قد تشكل هاجسًا كبيرًا في اتساع رقعة الانحراف، والوعد من مجالس إدارة الشركة للمساهمين.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال