الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في هذا المقال نتناول نظام الحماية من الإيذاء الصادر عام 1434ه، من خلال قراءة نقدية لمسألة الإبلاغ عن الإيذاء حيث نسلط الضوء فيها على ثلاثة أمور: الأول، واجب الممارس الصحي في الإبلاغ عند اكتشاف حالة إيذاء خارجي لأحد المرضى أو المراجعين. الثاني: مناقشة إغفال النظام لتقرير عقوبة عدم الإبلاغ. الثالث: مدى وجود حس المسؤولية لدى الممارس الصحي عند اكتشاف حالة إيذاء.
بادئ ذي بدء، صدور هذا النظام – حديثاً – يعدُّ بحد ذاته تطوراً تشريعياً؛ لم يُبنى على خلفية تشريعية سابقة كما هو حاصل في بعض الأنظمة مثل المرافعات الشرعية ونظام الشركات. وقد ورد في النظام تعريف الإيذاء بأنه “كل شكل من أشكال الاستغلال، أو إساءة المعاملة الجسدية أو النفسية أو الجنسية، أو التهديد به”، وقد جعل من أشكال الإساءة “امتناع شخص أو تقصيره في الوفاء بواجباته أو التزاماته في توفير الحاجات الأساسية لشخص آخر من أفراد أسرته أو ممن يترتب عليه شرعاً أو نظاماً توفير تلك الحاجات لهم”. من هذا التعريف ندرك أن الإساءة قد تحدث لكبار السن كما الأطفال. والجامع بين الصغير والكبير هو الضعف، إذ غالباً ما يُضامُ شخص عند ضعفه، حتى ولو كان شاباً. والتعريف جاء عاماً ليشمل عدداً لا يتناهى من أنواع الإيذاء كالضرب وكتم النفس، والاعتداء الجنسي والألفاظ البذيئة، والتهديد والإذلال أو الاستغلال المالي مثل التصرف في مال كبير السن أو الطفل أو ممتلكاتهم. وكما أن الإيذاء يأتي من خارج مراكز الرعاية الصحية فقد يأتي من داخلها، فالممرض قد يتسبب في إيذاء مريض بعدم تجنيبه ما يضره كالسقوط من السرير أو انبعاث المطهرات الكيميائية أو عدم نقله إلى مكان آمن أو نظيف أو عدم تحويله إلى مكان لتلقي العلاج المناسب أو عدم علاج تقرحاته او إهمال متابعته بتناول أدويته. ويُسمى كل ذلك إهمالاً، وهو داخل في تعريف الإيذاء وفقاً للتعريف المشار إليه آنفاً.
ونجد النظام يتناغم مع نهي الشرع وتذكيره بحق الضعيفين “اليتيم والمرأة” فحالة الضعف تحيط بهما، ومثلهما كبير السن والطفل. وبمقارنة نسبة الإيذاء الموجه ضد كبير السن والطفل فقد نجده لدى كبير السن أكثر من الطفل نظراً للميل العاطفي الفطري تجاهه. لذا باتت إساءة معاملة كبار السن مشكلة كبرى، أفصح عنها صاحب كتاب “خلف الأبواب المغلقة” حين تناول تاريخ العنف الأسري في الولايات المتحدة الامريكية بأن ثمة دراسات قدّرت أن واحداً من كل منزلين فيها عنف أسري مرة سنوياً. وبالتالي فإن الإبلاغ عن الإساءات لكبار السن أقل مقارنة بما يحصل ضد الأطفال. ومن أشكال الإساءة لكبير السن: الاستغلال المالي، مثل: أخذ وكالة شرعية على أمر ما أو تبصيمه على مستند أو على وصية ونحو ذلك. وقد يخجل كبير السن من الاعتراف بأن ولده أو قريبه يسيئ معاملته؛ خشية الانتقام أو التأثير على السمعة، وتضيق به الحيل فيؤثر الصمت.
وذكر أهل الاختصاص علامات تدل وجودها على جسد ما بأن صاحبه قد تعرض لسوء معاملة أو إهمال، مثل: وفاة غير منطقية أو غير متوقعة، وجود أدوية غير مناسبة لحالته، تخدير من غير متخصص أو دون حاجة، كسور في العظام، نوبات عاطفية مفاجئة وغير متوقعة، كدمات وتقرحات وتغير في اللون، حروق، سقوط شعر أو عدم وجوده في مكان ما من الجسد، نزيف تحت فروة الرأس، جفاف وسوء تغذية دون سبب مرتبط بالمرض، تغير في شخصيته أو سلوكه، فقدان الوزن، تردد في الكلام بصراحة، قصص غير معقولة، تصرفات غير عادية في: الحسابات المصرفية، توقيعات على شيكات، توقيع لا يشبه توقيع المريض، وكالة رسمية أو وصية يحيط بها الشك، فقدان أشياء ثمينة كالساعة والمجوهرات، عدم السماح بخروجه إلا بحضور شخص ما، عدم حديثه عن نفسه أو مقابلة غيره. فأي علامة منها يشتبه معها وجود إساءة للشخص.
ومراكز الرعاية الصحية تعدُّ أكثر الأمكان المتوقع فيها كشف حالات الإساءة والاعتداء. فالاعتداء قد يحصل في المنزل ثم يتجه المتضرر إلى المستشفى للعلاج الجسدي أو النفسي. لذا كان من بين مهام مراكز الرعاية الصحية الإبلاغ عن حالات الإيذاء أو الاعتداء التي يعترف بها المريض أو المراجع أو ما يمكن ملاحظته عند الكشف على جسد المريض أو الاستماع إليه عند حديثه أو نحو ذلك، أو عند قراءة أوراق ملفه. ويعدّ إغفال ذلك إهمال من الموظف أو الطبيب محاسب عليه شرعاً وعرفاً ونظاماً. وقد يكون الطبيب من بين الممارسين الآخرين أكثر معرفة أو تعرفاً على حالة إيذاء، ويجب عليه حينئذ الإبلاغ إذا اشتبه، أما وصوله إلى حالة الجزم التام فليس مطلوباً، إذ يُكتفى بالاشتباه بوجود علاماته، حيث أعفاه النظام من تبعية المسؤولية فيما لو استبان لاحقاً خطأ توقعه بشرط حسن النيّة.
في قضيةٍ رُفعت إلى محكمة ميتشيغان بأمريكا الشمالية ( Awkerman v. TriCounty Orthopedic Group ) ضد أطباء أبلغوا عن حالة إساءة لطفل بوجود كسور في عظامه بشكل متكرر. لكن بعد التحقق شُخصت حالته على أنها نقص في تكوين العظام وأن البلاغ كان نتيجة إهمال طبي في دقة تشخيص الحالة. ومع ذلك، رأت محكمة الاستئناف أن الأطباء محصنون ضد المسؤولية بقانون الإبلاغ عن إساءة معاملة الأطفال حتى لو شاب التقرير الطبي عيب الإهمال نتيجة عدم الدقة في التشخيص؛ فحسن النية يعفيهم من تحمّل تبعة المسؤولية.
والمريض أو المراجع قد يأتي إلى الطبيب ولا يُصرح بشيء رغم معاناته من الأذى أو العنف إما لضعفه أو حاجته أو قرابة الفاعل. وكما أوضحنا شمول الإيذاء لجميع أنواعه بما فيها التقصير في توفير حاجاته الأساسية. بل توسعت بعض الأنظمة في تعريف المعتدى عليه ليشمل الطفل الذي يعاني من الجوع والإهمال الأخلاقي أو تعريضه إلى خطر ما أو وضعه في مكان سيئ السمعة أو مع أشخاص مشردين أو سيئي أخلاق. في هذا السياق نتذكر اهتمام الدولة بتحذير إحدى شركات الأفلام بوجوب إيقاف كل ما من شأنه الإساءة للأطفال.
في قضية حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية ( Marks v. Tenbrunses) وخلاصتها أن الطبيب النفسي طمئن المريض بسرية جلسات العلاج، فأخبره – أي المريض – بأنه يداعب طفلين دون سن 12 عاماً. فكتب الطبيب تقريراً إلى مركز خدمات حماية الأطفال ليبلغ عن حالة إيذاء لطفلين بتعرضهما للاعتداء الجنسي. وبدروه رفع المركز الأمر إلى المحكمة، واعترف المريض بسلوكه ضدهما. وهنا نلحظ أن الطفلين لم يأتيا للعلاج ليكتشفهما الطبيب، وإنما عرف عنهما باعتراف المعتدي.
وكما يحمي النظام المعتدى عليه لأنه في خطر، كذلك يحمي المبلّغ بعدم الإفصاح عن هويته لأي شخص أو أي جهة؛ لأنه في خطر أيضاً من اعتداء متوقع. ومعظم الدول تحمي المبلغين وتوجب على الجهة المتلقية للبلاغ عدم الإفصاح عن هويات المبلغين.
ورغم إلزام النظام – نظام الحماية من الإيذاء – كل من علم عن حالة اعتداء الإبلاغ عنها إلا أنه لم يُرتب على عدم الإلتزام بهذا الواجب عقوبة! وهذا خلاف المتوقع، إذِ الواجب لا يكون ملزماً إلا بترتب عقوبة على تركه. ماذا لو كان ثمة شخص يعرف عن حالة اعتداء ولم يبلغ عنها، هل يمكن معاقبته نظاما؟ النظام يخلو من نص صريح حول ذلك. والسكوت عن عقوبة إهمال التبليغ عن حالة اعتداء قد يترتب عليه مخاطر جنائية ومدنية على المعتدى عليهم. لذا سنت معظم الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات مدنية وجنائية عند عدم الإبلاغ عن حالات إساءة معاملة مشتبه بها. فمثلاً ولاية مينيسوتا تُعلق ترخيص الطبيب إذا لم يبلغ عن حالة اعتداء أو إساءة. في أحد الأعوام علّق مجلس الولاية رخصة طبيب نفسي بسبب عدم إبلاغه عن إساءة لطفل. وجادل الطبيب بأن الإبلاغ ينتهك خصوصة العملاء المحمية بالدستور. وأن جدّ الطفل قد كان موجوداً وقت الحادثة، وأنه هو المسؤول عنه، مضيفاً بأن قانون الإبلاغ غير واضح الانطباق. إلا أن المحكمة لم تقبل منه ذلك.
أيضاً في قضية ضد الممرضة براون (State v Brown) حيث وجد فريق إنقاذ طفلاً عمره سنتان فاقد الوعي مع صلابة غير طبيعية في جسمه. وأثناء محاولة إنعاشه -بشكل عاجل – اكتشفوا سلسلة من الكدمات الصغيرة على طول العمود الفقري، وكدمة حمراء تحت عينه. فنقلوا هذه المعلومات إلى طاقم الطائرة الذي نقل الطفل جواً إلى مستشفى في ولاية ميسوري، وأبلغوا الممرضة (براون) بالملاحظات التي وجدها فريق الإنقاذ على جسد الطفل. إلا أن الممرضة لم تتخذ شيئاً حيال ذلك. وبعد تعافي الطفل خرج من المستشفى في أغسطس 2002 ثم عاد بعد أربعة أيام لصدمة في رأسه ثم مات بعدها. عُوتبت الممرضة على عدم توثيق المعلومات وعدم الاتصال بالخط الساخن بمركز إساءة معاملة الأطفال في الولاية، الأمر الذي قادها إلى محاكمة حاولت فيها الدفاع عن نفسها بأن والدة الطفل بالتبني قد أخبرتها بأن الصدمة بسبب ميله بمقعده إلى الخلف. إلا أن المدعي العام أصرّ على مخالفتها لقانون الولاية حيث رأى أنه قد توفر لها مبرر معقول للاشتباه في تعرض الطفل للإيذاء أو الإهمال. فوجّه إليها تهمة عدم الإبلاغ عن إساءة معاملة طفل، واتهام آخر إلى الطبيب بموجب نظام الولاية.
هذه القضايا – أعلاه- تشير إلى أهمية معاقبة الشخص الساكت عن الإبلاغ، خاصة من الممارس الصحي، مما يُحتم إضافة مادة أو فقرة في مادة في تقرير عقوبة مناسبة لمن يهمل الإبلاغ عن حالة إساءة أو اعتداء بما يخالف أحكام النظام. على أنه يمكن الاسترشاد بنصوص أخرى نظامية وشرعية في معاقبة عدم المبُلّغ، إلا أنه قد جرت العادة على أن النظام الجنائي يحمل في طياته مادة عقابية لمخالفة نصوص أحكامه.
تبقى مسألة رفع الوعي لدى الممارس الصحي بأهمية أداء واجبه في مسألة الإبلاغ عن حالة إيذاء، فكما جاء آنفاً بأن مراكز الرعاية الصحية هي المكان الأحرى باكتشاف حالات الاعتداء، وبالتالي فإن تثقيف الممارسين الصحيين بأحكام هذا النظام أمرٌ بالغ الأهمية، ذلك أن كثرة الإمساس تقلل الإحساس. فتكرر مشاهد المصابين يومياً قد تجعل الممارس الصحي في غفلة عن إدراك أن الحالة التي بين يديه هي نتيجة اعتداء بدني أو نفسي أو نحوه. بل ربما لو أقرّ المريض بأن إصابته الجسدية أو النفسية هي نتيجة إساءة معاملة قريب أو من له ولاية عليه؛ لربما غفل الممارس عن تفعيل دوره النظامي في الإبلاغ عن الحالة. لذا نص النظام صراحة في مادته الخامسة عشرة على أهمية اتخاذ الوزارة – وزارة الشؤون الاجتماعية – التدابير الوقائية المناسبة لرفع الوعي بحقوق المُساء إليهم ووظيفة الآخرين تجاههم، ومن ذلك تنظيم برامج تدريبية متخصصة لجميع المعنيين بالتعامل مع حالات الإيذاء، بمن فيهم القضاة ورجال الضبط والتحقيق والأطباء والأخصائيون وغيرهم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال