3666 144 055
[email protected]
في احد الندوات المهنية طلب المحاضر من المشاركين بتعليقات او اسئلة أن يعرفوا بالمنظمات التي يعملون بها. و خلال مداخلات الحضور لاحظت أن عددا ليس بيسير كان غير ناسيا متجاهلا لذكر المؤسسة التي ينتمي لها. بينما كان القليل الآخر حريص جدا على ذكر تفاصيل العمل الذي هو جزء منه.
السؤال هنا لماذا حرصت الفئة الأولى على اخفاء المنظمات التي تعمل لها رغم ان ذلك قد يعد تسويقا لهم في ندوة يحضرها العديد من قادة المنشآت مما قد يتنج عنه طلبات او عروض وظيفية افضل. بالمقابل اخذت اطيل التحليل في السبب الذي دعى الآخرين ليكونوا اكثر حرصا لذكر ليس فقط اسم المنظمات المنتمين لها بل التفصيل لماهية العمل الذي يشغرونه.
الاحتمالات كبيرة جدا قد يكون جزء منها صفات المشاركين الشخصية او غياب وعيهم بمآلات التسويق الذاتي لكن سأقتصر الحديث هنا من زاوية معينة وهي ظاهرة من نوعية المنشآت التي ينتمي لها الاشخاص المعلنين لاعمالهم بالتفصيل. عندما عدت الى اسماء تلك المنشآت وجدت ان السواد الاعظم منها هي منشآت ذات صيت مهني عالي او ذات سمعة جذابة.
هذا الأمر لم يكن مفاجأ والسبب في ذلك أن من ينتمي لعائلة ذات صيت حسن دائما يحاول الاعتداد بذلك و يروي ثقته من ذلك المعين. فقد شدد الباحثين جيمس و باري في كتابهما الجميل “المصداقية” (وهو لبناء القادة ) على أن القيادة تكتسب قبل ان تكون هبة. أحد النقاط الهامة التي اكد عليها الباحثين صفة الصدق وجعل الوعود والعبارات الرائعة والشعارات المنمقة والانظمة واقعا ملموسا للموظفين والعمال (المرؤوسين عموما). لذا واجها حال اجراءهم للبحث البعض من الموظفين الذي لا يريد ان يوضح بصدق عن ماهية المنظمة التي ينتمي لها وحين سألوه عن السبب ذكر انه لا يعتقد ان المنظمة تمثله وكان احد اهم اسباب ذلك غياب القيم التي تتناسب مع طموحاته وقيمه.
لذا ليس غريبا أن تجلس باحد المجالس العامة، فترى احدهم يفتخر بكونه موظفا بشركة أرامكو (رغم ان موقعه الوظيفي قد لا يكون مرموقا) وقس ذلك على العديد من المنظمات. شركة جوجل تعمل على ان لا ينظم اليها الا شخص يتفق مع قيمها ورؤيتها فلابد ان يكون شخصا مبدعا حتى اقتنع كل من ينتمي لجوجل ان لكونه جزء منها فهو مبدع. خطوط الطيران الامريكية (ساوث ويست) من عرفت بالطابع المرح جعلت هذا الطابع قيمة لابد ان يتصف بها العامل وعززت ذلك بقيادين يمتلكون تلك القيمة ويعززونها بالاضافة الى البيئة الداخلية المؤيدة للمرح.
السؤال الأهم من يصنع القيم الحقة (والتي هي مصدر الفخر بالانتماء لمنظمات معينة)؟ بلا شك هم القادة (الجهات الادارية العليا). فمثلا عُرِف عن شركة أرامكوا: الانتاجية و المزايا الوظيفية والانضباطية. تلك القيم ان لم تكن واقعا ملموسا للموظفين فلن تسري بداخلهم ولن تكون جزءا منهم ولن يفتخروا بها.
حتى يكون لديك موظفين اصحاب ولاء وانتماء عالي لمنظمتك ابدأ بنفسك اولا كمدير وكقائد فكل منا قائد حتى الوالد في منزلة كابسط شكل للمنظمات. يسوؤني حين ارى الكثير من المنتمين للمنظمات الحكومية يفتقدون لعامل الانتماء والولاء بل ان كثيرا منهم لا يقف عند مرحلة عدم الانتماء بل ينتقل لمرحلة الملل والبقاء كعالة على المنظمة والبيئة العامة بها. احيانا كثيرة لا يكون المسبب الأساس الموظف فقط بل الأمر يغذى من الطابع العام والبيئة العامة التي أسسها القادة داخل المنظمة.
أذكر انه كان لي مراجعات متكررة لأحد الادارات الحكومية لانهاء معاملة طال عمرها حتى جاوز الستة أشهر. المهم أني كنت في كل مرة ازور تلك الدائرة اشاهد سلوكيات متكررة الحدوث من الموظفين باختلافهم من حسنهم الى اسوأهم تعاملا. كانت تلك السلوكيات محل امتعاض المراجعين دون جدوى و ابرزها اللامسئولية وعدم الانضباطية وغياب النظام الواضح وفقدان الاحترام احيانا كثيرة( فكثيرا ما تسمع اصوات المراجعين والعاملين مرتفعه). في بداية زياراتي كنت أقول اين الاداريين عن ما يحدث من سلوكيات! أهذه السلوكيات ترضيهم؟؟ زال اندهاشي بالكامل حين بدأت التعامل مع الاداريين المباشرين فوجدت ان تلك السلوكيات مبناها الاساس هؤلاء القادة. فقد عمدوا الى المركزية فكل معاملة لابد ان تمر من خلالهم مما جعل الموظف يشعر بعدم الثقة فكل خطوة يقوم بها لابد ان تكون بتوجيههم، واسسوا لعدم الانضباطية بالعلم بها دون اي اجراءات حاسمة او محفزة للحضور، جعلوا من الموظفين اجساد لا يطيقون المسئولية ولا يأبهون بها والسبب عدم علمهم بالانظمة وغيابها عن اذهانهم فحين تأتي في يوم يقول لك الموظف المعاملة انتهت، وحين تذهب لانهاءها من المدير تفاجأ بانه يطلب اجراءات جديدة الموظف لا يعلم عنها شيء، ثم تعود للموظف و يأخذ المعاملة بكل برود معلنا أن الاجراءات الجديدة لابد ان تطبق كما اشار المدير!! هذه الحالة متكررة في اكثر من دائرة حكومية ومنبعها غالبا اداري (قيادي). بل احيانا يستخدمك الموظف لمناكفة مديره فيرسلك اكثر من مرة الى المدير حتى يمتعض المدير ويشعر بأن الموظف لديه ضغط عملي !! بلا شك ان بيئة اساسها المناكفة لن تكون منتجة ولا صحية.
والامثلة لدينا اكثر من ان تحصر جميلها وسيئها فكم من مؤسسة عامة او خاصة زاد توهجها بوجود اداري معين وغاب بريقها بغيابه. المطالبة بوجود بيئة عامة تؤسس لقادة متميزين بلا شك حل لابد منه وصناعة القائد ليس امرا سهلا بلا شك لكن علينا ان نؤمن أنه بامكاننا صناعة القادة (او ان صفة القيادة ممكنة الاكتساب وليست حكرا لاحد دون غيرة).
القيادة اساسها القيم فاذا كنت اليوم اداري باحد القطاعات اسأل نفسك هل أنت منضبط لتطالب موظفيك بالانضباط؟؟ لأنه عليك ان تعلم ان تصرفاتك وسلوكياتك هي تحت ملاحظة الموظف لحظة بلحظة وخلالها يعمل هو على المقارنة والتحقق من كون قيمك التي تحاول تأسيسها هي قيم صادقة انت بدات بها. من التأكيد ان الموظف سيكون خجل جدا ان يكون غير منضبط حين يجد ان مديره أول من يحضر واخر من يغيب عندها سيجد ان الانضباطية قيمة راسخة بالمنظمة. أيضا حين تطلب من موظفيك الانتاجية تأكد من كونك منتج قبل ذلك؟؟ فحين يعلم الموظف انك شخص بلا انتاجية اعلم يقينا ان الموظف لن يكون منتجا حتى وان عاقبته او حاولت فعل ذلك. و لا يمكننا ان ننفي أهمية القيادة مهما اسسنا لاهمية الاستقلالية الذاتية وهدم كل معالم للتبعية بل ان القيادة الحقة لا تعارض تلك المفاهيم. لذا اختيار المدراء اليوم لابد ان لايكون امرا اعتباطيا.
وأنا ازور القطاعات العامة والخاصة استطيع احيانا كثيرة ان اقيم المنشآت من ردهات مبانيها وشكل موظفيها وطريقة تعاملهم قبل ان اصل الى الجهاز الاداري الأعلى (القادة). فمثلا تلك الدائرة التي كنت في مراجعة دائمة لها خلال فترة الستة اشهر كان كل شيء بها يرمز للا مسئولية بدءا من الملفات المتساقطة والأثاث المهترأ وحالة الموظفين الرثة الى استخدام المكيفات كسلة مخلفات احيانا. كان امرا داعيا للشفقة قبل الاشمئزاز كيف لموظف ان يشعر بالانسانية واهمية عمله وكل هذه البيئة حوله، بل أن مدير تلك الدائرة لم يكن افضل حالا كان ما يميزه عنهم فقط هو كون جهاز الحاسب لديه قد وضع بكفن وعلى النعش (المكتب) قد جمد!! هذه الحالة تجدها في كل دائرة فغالبا ما تجد ان لباقة كل الموظفين وحسن مظهرهم لم يأتي اعتباطا وانما لانهم وجدوا هذا الامر قيمة هامة لمدرائهم وقادتهم. فما تريد تأسيسه في موظفيك تأكد من امتلاكك له اولا او ضع من يمتلكه ليؤسسه لدى المنظمة (المصداقية). حين تمرر السلوكيات المناهضة لقيم المؤسسة اعلم انه سيأتي يوم تتوه فيه المنظمة عن قيمها.
الشعور بالمسئولية احيانا كثيرة اهم من قضية المرابحة. كلنا يبحث عن المادة كلنا كبشر نحتاج الى المال لتسيير امورنا لكن متى كان القادة ماديين بشكل مفرط، فلا تتوقع ان يكون الموظفين ذا مسئولية واهتمام بالقيم الذاتية فكل شيء بسعر معين عندهم مما قد يجر الى ممارسات غير اخلاقية واحيانا اجرامية.
اليوم الحال لدينا افضل من السابق في ظل الاهتمام المتزايد بالطاقات البشرية وافتتاح العديد من ادارات الموارد البشرية لكن ستظل المحاولات غير محققة لنتائج كبيرة مالم يعزز ذلك القادة. فالقادة الغير مهتمين بأمر المصداقية ومن لا يحملون طموحات حية ومن هم بلا رؤية مستقبلية لا يتوقع منهم قيادة المؤسسات الى مستقبل افضل. القادة المؤسسين للوشاية والنميمة في مؤسساتهم لا يجب عليهم انكار حالات المناكفة والنزاع بين الموظفين فهم من أسس لذلك.
خاتمة: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.. الحديث) من أهم صفات القادة الشعور بالمسئولية فذلك الشعور يجعلهم اكثر حساسية لموضوع المصداقية وتعزيز القيم السليمة باختلافها سواء كانت انتاجية او ابداع او مرح … وما الى ذلك. القيادة نقول احيانا انها كاريزما لكننا يمكن ان نصنع قادة ولن يكون ذلك الا حين ان نستشعر عمق تأثير القيادة وبذلك سنعمد الى تطوير مهارات قادتنا لنؤسس بيئة خلاقة لقادة جدد.
النفيسة
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734