3666 144 055
[email protected]
من الضروري التفكير في العمارة بصورة مختلفة تقربنا من العمل الحرفي الذي هو لب المنتج المعماري. أحد الأسباب الرئيسية لخسارة المدينة السعودية هويتها هو غياب الحرفة عن العمارة، وليس التصميم. هذ الفكرة تراودني منذ فترة طويلة إلا أنني في الفترة الأخيرة صرت أعمل بشكل أكبر مع الزميل الدكتور جاسر الحربش، وهو المسؤول عن البرنامج الوطني للحرف اليدوية “بارع” على تطوير اللغة المعمارية لبعض الفنادق التراثية التي تتبني الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني دعمها وإخراجها للنور في مناطق عدة من المملكة.
الأسئلة التي صرنا نطرحها حرفية بامتياز، وإن كانت مشتقة من تجارب معمارية سابقة، لكن الهدف هو إعادة بناء ذلك العالم الحرفي المفقود، والذي فعلا ترك أثرا سلبيا على عمارتنا المعاصرة وأفقدها روحها، فإذا كانت العمارة فكرا وذوقا يبقى العمل الحرفي هو الذي يجسدها ويعطيها روحها.
البعد الاقتصادي للحرفة هو ما يثير اهتمامي في الوقت الراهن، ولن يتحقق هذا البعد ما لم يكن لدينا حرفيون ماهرون في مجالات متعددة، ومع ذلك دعوني أقل إنه كلما كان هناك حرفيون متمكنون من عملهم توسعت فرص العمل لهم خصوصا في مجال البناء، لأن كل مبنى أصلا يتكون من تفاصيل تمثل أنماطا حرفية مستقلة تتجمع في مكان واحد، المعماري مسؤول عن الربط بينها لكن يجب أن يكون هناك حرفي متخصص ومتمكن لكل تفصيلة. هذا الكلام أقوله بعد تجارب متعددة مع الكثير ممن يرغب في البناء، فكوني معماريا عملت خلال السنوات الفائتة مع العديد في مجال التصميم وكانت الشكوى الأبرز هي عدم وجود حرفيين يمكن أن يعتمد عليهم في السوق السعودي في مجال البناء. في الماضي كان هناك من يعمل في النجارة وفي أعمال “الجص” وزخارفه وأعمال الزجاج، وأعمال الحجر والطين، وكانوا حرفيين مهرة استطاعوا أن يصنعوا عمارة خلاقة، وهذا ما يحتاج له الناس هذه الأيام، الحرفي الذي يستطيع أن يخلق ويجدد لكنه في الوقت نفسه يحافظ على أصول مهنته وهويتها لأنها هي التي تضمن بقاء الهوية المعمارية.
تخيلوا معي حركة البناء في المملكة خلال العقود الفائتة، ولو أن من نفذ الأعمال التفصيلية في تلك المباني هم حرفيون سعوديون، ماذا سيكون العائد الاقتصادي، وعدد الوظائف التي ستكون قد توفرت للشباب وحتى الشابات. كم من المؤسسات الحرفية الصغيرة والمتوسطة قد تكون تشكلت وساهمت في إحداث حراك اقتصادي، وربما قد تكون تكونت شركات عملاقة نقلت العمل الحرفي الفردي إلى منتجات يمكن تصنيعها على نطاق واسع.
أعود وأكرر، الحرفة مجال اقتصادي واسع لكنه بحاجة إلى صبر ورؤية بعيدة، ولعل هذا ما جعلني أتساءل عن اهتمام الأمير سلطان بن سلمان بتأسيس برنامج بارع منذ وقت مبكر ومثابرته الدؤوبة من اجل إقراره على مستوى الدولة وتحويله إلى برنامج وطني. القيمة الاقتصادية هنا كانت محركا مهما وهدفا إستراتيجيا بعيد المدى.
لأعد الآن للعمارة وقيمة العمل الحرفي فيها، فكل الروائع المعمارية التي نراها في التاريخ، نفذها حرفيون متميزون. في اعتقادي أنه لا يوجد عمارة دون عمل حرفي متميز، لذلك أعود وأكرر أن عمارتنا السعودية المعاصرة فقدت هويتها لأن الحرفيين غابوا عن المشهد وتم استبدالهم، بعمالة رخيصة لا تتقن ما تقوم به والأهم من ذلك انها لا تؤمن به. الفرق هنا هو أن الحرفي في السابق كان مؤمنا بما يعمل وكان يشعر نحو عمله بالفخر، لذلك كانت الأعمال التاريخية خالدة ويصعب تكرارها. في الدول التي مازالت تحافظ على تاريخها الحرفي استطاعت أن تقدم عمارة معاصرة لها هويتها الخاصة، ليس بالضرورة نسخة من عمارتها التاريخية لكنها ذات نكهة محلية خاصة لا تجدها في مكان آخر.
هذا ما أريد أن اؤكد عليه هنا، فنحن بحاجة إلى تبني مشروع هوية معمارية سعودية معاصرة، ونقدنا للمدينة وما يبنى فيها ليس مجديا إذا لم نبدأ نفكر بجد في الآليات التي تنتج العمارة وأولها العمل الحرفي.
المملكة متنوعة جغرافيا ومناخيا وبالتالي تنوعت عمارتها التاريخية وتشكلت حرف في كل منطقة تتناسب مع طبيعة المنطقة واحتياجها. هؤلاء الحرفيون ضمنوا هوية العمارة المحلية في كل منطقة وأعادوا إنتاجها وطوروها. اليوم نحن بحاجة لمثل هذا المشروع الوطني العملاق وأعتقد أن مركز التراث العمراني الوطني بمشاركة “بارع” وكلاهما جزء من هيئة السياحة، يمكنهما تقديم رؤية لمستقبل العمارة السعودية.
ربما تكون إحدى البدايات هي تبني وزارة الإسكان في مشروعاتها هذه الفكرة وعقد شراكة مع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ممثلة في مركز التراث العمراني وبارع، على أن يقوم الأخيران بتبني إعداد حرفيين مؤهلين في كل منطقة على حدة يكونون قد تشربوا الروح المحلية لإعادة بثها مرة أخرى.
هذا المقترح ينطبق كذلك على وزارة الشؤون البلدية، كون هذه الوزارة هي المسؤولة عن المدينة السعودية وما يبنى فيها. الفكرة التي في ذهني تتجاوز الصورة الخارجية للعمارة إلى استعادة الروح والوهج الذي فقدته عمارتنا المعاصرة، وهذا لن يتحقق باعادة الأشكال القديمة ولكن بفهم حقيقي لمكون البيئة المحلية وإعادة إنتاجها وهذا يتطلب حرفيين من كل منطقة.
المجال واسع والفرص مفتوحة أمام العمل الحرفي في المملكة، هذا المجال الذي يشكل أحد الحلول الاقتصادية هو كذلك مجال للتفكير والإبداع، وأعتقد أنه قد آن الآوان لمدارسنا أن تتبنى مناهج حرفية، لأن هذا التوجه يمثل توجها تعليميا يعتمد على “التجربة” وحل المشكلة لا مجرد تلقي كيفية حلولها.
إعداد جيل يعرف كيف يعمل بيده ويقدر العمل اليدوي وفي نفس الوقت مسلح بالعلم والمعرفة الحديثة هو الذي سيجعل الشباب السعودي يعتمد على نفسه ولا يفكر فقط في مجرد الوظيفة المريحة التي تقدم له عائدا ماديا نهاية كل شهر دون أن يكون له أي منتج له قيمة.
نقلا عن الرياض
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734