الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تعتبر الأزمات إحدى الاضطرابات الصحية التي يحتاجها أي اقتصاد أو صناعة لإعادة التوازن وخلق تحديات وفرص جديدة للأسواق. وإن عدنا بالذاكرة إلى المئة عام الماضية نجد أن في كل عقد تقريبا تكون هناك أزمة تختلف في حدتها وتأثيرها على الاقتصاد العالمي. وفي نفس هذه الفترة كان النفط عاملا مؤثر وأساسي في الصناعة بشكل عام وصناعة الطاقة بشكل خاص , لذلك كان لهذه الأزمات تأثيرها المباشر على النفط وصناعته.
آخرها الطفرة النفطية الثالثة المنتهية في عام 2008, ولكن ابتدأت مسبباتها قبل ذلك بكثير. فقد تسببت أزمة الطاقة في عام 1979 بتباطؤ النشاط الاقتصادي للدول الصناعية ومن ثم انخفاض الطلب على النفط , وتزامن هذا الانخفاض مع استمرار الدول المنتجة بالحفاظ على نفس مستويات إنتاجها. مما أوجد وفرة في السوق العالمي , تسببت في نزول الأسعار لمدة ست سنوات متواصلة وصل ذروته في عام 1986. حيث انهارت الأسعار فيه من 27$ إلى أقل من 10 دولارات للبرميل , مما أثر على السيولة النقدية للشركات النفطية وبذلك تأثرت استثماراتها التوسعية , و استمر هذا التوقف في بداية ومنتصف التسعينيات بسبب العوامل الجيوسياسية في الخليج أثناء وبعد حرب الخليج الثانية.
حتى أصبح العالم في عام 1998 يستهلك من النفط ما تنتجه طاقته الإنتاجية القصوى , قبل أن تبدأ موجة جديدة لنمو الطلب العالمي على النفط استمر لحوالي عقد من الزمن دون انقطاع. حيث ارتفع استهلاك العالم من 72.1 مليون برميل يوميا عام 1998 , إلى 81.5 مليون برميل يوميا عام 2007. ونتيجة لذلك ارتفعت الأسعار الرسمية لسلة نفط أوبك على سبيل المثال من 12.3 دولار عام 1998 إلى 69.1 دولارا للبرميل عام 2007 , حتى وصل إلى سعره التاريخي 147 دولارا للبرميل في بداية شهر يوليو 2008.
أما الأزمة الحالية فهي مشابهه لما سبقتها , فقد بدأت قبل كوفيد 19 , نعم خلال هذه الجائحة انهار الطلب على النفط بنسبة 30% أي ما يقارب 30 مليون برميل يوميا , ومن ثم انهارت الأسعار إلى ما يقارب سعر التكلفة. ولكن أعتقد أن الأزمة الحقيقة كانت نتيجة أزمات متراكمة خلال عقد من الزمن وليس فقط هذه الأزمة. فقد دخلت شركات جديدة في بداية العقد الحالي إلى السوق وتوسعت أيضا بعض الدول في الإنتاج لاستغلال خروج مؤقت لبعض المنتجين كما حدث بسبب الربيع العربي مما سبب تخمة في المعروض بعد عودتهم.
حاربت بعدها منظمة أوبك بقيادة السعودية طيلة السنوات الخمس الماضية لإعادة توازن السوق وسحب الفائض وخلق سوق صحي للجميع , إلى أن نجحت في شهر نوفمبر عام 2016 بالوصول مع الدول المنتجة داخل وخارج أوبك ولأول مرة في التاريخ إلى اتفاق تخفيض الإنتاج مقداره 1.8 مليون برميل يوميا , سمي باتفاق أوبك بلس تحملت فيه السعودية النسبة الأكبر بمعدل 500 ألف برميل يوميا , ساعد هذا الاتفاق على تعافي السوق وارتفاع الأسعار من متوسط 30 دولار للبرميل عام 2016 إلى متوسط 84 دولار للبرميل عام 2018. ولكن في بداية عام 2019 بدأت مؤشرات الحرب التجارية بين أمريكا والصين تؤثر على الطلب العالمي على النفط من جديد , مما دعا المملكة إلى طلب تعميق التخفيض بمقدار 1.5 مليون برميل يوميا إضافي لامتصاص الفائض واستقرار السوق. ولكن تم رفض هذا المقترح في ديسمبر 2019 مما أدى إلى ازدياد التخمة في المعروض مجددا وانهيار الأسعار إلى مستويات قياسية.
وازداد الأمر سوءا بعد وصول جائحة كورونا والإجراءات الاحترازية المتزامنة معها. إلى أن وصلت دول أوبك بلس إلى اتفاق بتخفيض ما يقارب 10 ملايين برميل يوميا في أبريل 2020 (وهو ما يراه الخبراء أنه قليل جدا مقارنة بحجم الطلب) تحسنت بعده الأسعار ولكن أعتقد أن الأسواق في العالم بحاجة إلى ما يقارب العامين لسحب هذه التخمة وعودة الأسعار إلى متوسط 65 دولار (السعر المناسب كما يراه أغلبية المنتجين والمستهلكين). ولكن الأزمة الحقيقة سوف تبدأ بعد ذلك , توقفت الاستثمارات التوسعية في صناعة النفط بسبب شح السيولة النقدية خلال هذه الفترة (خصوصا أن 80% من شركات النفط في العالم هي وطنية وهي المصدر الرئيسي لدخل دولها وهي التي بدورها احتاجت الكثير من السيولة لإنقاذ اقتصاداتها خلال هذه الأزمة) , لذلك نستطيع أن نستشرف المستقبل القريب وأن هذا التوقف سوف يتسبب بموجة ارتفاعات حادة للأسعار النفط عند عودة نمو الطلب على النفط , وقد تتجاوز ال 100 دولار للبرميل قبل عام 2024. قد يرى البعض أن هذه الارتفاعات مفيدة للدول المنتجة , إلا أنها ضارة جدا.
يعد النفط في العالم اليوم المصدر الأول والأساسي ومحور أغلب الإنتاج الصناعي والزراعي , ومادة أولية لإنتاج أكثر من عشرة آلاف سلعة صناعية مختلفة في العالم , لذلك يعتبر عصب حياة الدول الصناعية , تذبذبات أسعاره مضره جدا للمستهلك و للمنتج على حد سواء. قد لا يكون ذلك على المدى القصير ولكن هذه التذبذبات مقلقه جدا للمستهلك , مما يجعله يتجه إلى مصادر أخرى للطاقة تضمن له الاستدامة والتوازن , وهذا سيكون له الأثر السلبي الكبير على طلب النفط على المدى المتوسط ثم انهيار الأسعار مرة أخرى ويتضرر المنتج.
يعتبر النفط سلعة استراتيجية تتشابه مع أغلب السلع الأخرى في قانون العرض والطلب , وهذا القانون غالبا ما يحدد السعر اللحظي للنفط إن لم تتعارض معه ظروف غير اعتيادية , ولكن ما يحدد وفرة العرض و كثرت الطلب هو استمرار الاستثمارات التوسعية فيه واستقرار أسعاره. تعلمنا من الأزمات السابقة أن توقف الاستثمارات أو التذبذب الحاد في الأسعار عواقبها وخيمه على هذه الصناعة. لذلك أتمنى أن نتعامل مع هذه الأزمة بشكل مختلف ويكون مستقبل النفط أفضل من ماضيه.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال