الجمعة, 17 مايو 2024

نقوش الحكمة والأمل .. 

“مال” تقدم قراءة في كتاب علي النعيمي “من البادية إلى عالم النفط”

FacebookTwitterWhatsAppTelegram

dr_alalshaikh@

ستفاجئك حكايات كثيرة عن الصحراء القاحلة والبحر النقي وأنت تقرأ كتاب” من البادية إلى عالم النفط”، ستغرقُ في عواطف مشحونةٍ بالتعجُّب من عقد المقارنة بين عالم “الجن” التخييلي وعالم “العلم التطبيقي” “الجيولوجي” على وجه الخصوص، ستحنُّ إلى علاقة إنسانية فريدة توطَّدتْ بين بدوي قحٍّ يدعى”خميس بن رمثان”ومستكشفٍ جيولوجي أمريكي صلب يدعى “ستاينكي”، وبالأكيد ستبحرُ هائما مفرِطَ الإعجاب بذلك البدوي القصير النحيل ذي الأقدام المشقوقة وهو يشق حياته منتقلا من الأمية الجاهلة إلى أرقى شهادات التعليم، ومن الفقر والعوز وقضم لحم الذئب والعمل ساعيا بسيطا، إلى الثراء النسبي وتناول الأسماك الشهية وإلى تسنم منصب “معالي الوزير” الذي تلا إدارة أعرق شركات العالم في مجال النفط.

اقرأ المزيد

كل تلك الأحاسيس ستتغلغلُ إلى ذهنك، وتتسربُ إلى قلبك وأنت تتصفح بنهمٍ السيرةَ الذاتية والإدارية التي خطَّها في كتاب أنيقٍ معالي وزير البترول والثروة المعدنية في عاصمة النفط الأولى عالميا علي بن إبراهيم النعيمي، لكنك إن كنت قارئا حاذقا يتلمَّس ما بين السطور، فإنك ستدرك طريقة النعيمي البدوية في زرع علاماتٍمضيئةً أمام عينيك تكتشف بها عددا من ملامح البيئة السعودية ودولتها المترامية الأطراف ممثلة في أحد منجزاتها الحضارية ألا وهي” أرامكو” تلك البيئة وهذه الدولة التي تجذّرت فيهما جملة من الأعراف والمبادئ انتقلت من مؤسِّسها الملك عبدالعزيز رحمه الله إلى أبنائه وجملة “التكنوقراط” الذين أداروا مفاصل الثروة والاقتصاد في البلاد، وعملوا وفق هاجس التنمية والتطوير والتحديث على مدى ما يزيد على ثمانين عاما. 

السيرة الذاتية والإدارية المضمَّخة بكثير من المواقف الشخصية للوزير النعيمي لم تكن حائلا بينه وبين الإفصاح عن أهم مكونات الحياة السياسية والإدارية والاجتماعية في المملكة العربية السعودية، وإليك بعض ما بذره النعيمي في إيراداته اللامعة التي كانت تحمل أحيانا بعضا من الشفافية والتكثيف، وأحيانا بعضا من الرمزية والتورية.

الشراكة والتوطين : 

يقول النعيمي:” يرحل أبناءُ جيلي تباعا مع مرور الأيام، دون أن يعرف أحفادهم الذين أطرقوا برؤوسهم أمام الهواتف الذكية كيف عاش أجدادهم؟!” يحدِّثك النعيمي عن شظف العيش، وعن صعوبة الحياة في دهاليز الصحراء التي لا تنبع خيراتها المحدودة من ماء وكلأ إلا أياما معدودات في المواسم المطرية، وعن القرى الريفية والهِجَر الصغيرة التي تعيش على أبسط مظاهر المعيشة والرزق، لكنه يحدِّثك أيضا عن العشيرة والقبيلة والحضر والبدو وعن مدى تمكُّن روح التشارك والتعاون التي أشاعها الملك عبدالعزيز بتوحيده للبلاد عام 1932في نفوس تلك العشائر والقبائل بمختلف منابعها البدوية والحضرية، يحدِّثك عن روح الشغف التي زُرعت في القلوب والعقول، كما عبَّر عنها صديقه ناصر العجمي نائب الرئيس التنفيذي لأرامكو:” لقد أتيتُ من البادية وببلوغي سن السابعة كنت أعرف ما يعرفه أبي … بعد ذلك يبدأ عقلك بالاستيعاب أنك لا تعرف كل شيء فترغب في معرفة المزيد، وهكذا بدأت الرحلة”.

وهذا ما يطرح فرضية السعودة “التوطين” التي ذكرها النعيمي في عقود الاتفاق الأولى عند منح امتياز التنقيب عن النفط وهو يبرز اشتراط الملك عبدالعزيز على شركة “ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا” في المادة 23 من اتفاقية الامتياز المكونة من سبع وثلاثين مادة، ونصُّه: “وعليهم أن يتعهدوا بتوظيف مواطنين سعوديين ما أمكن ذلك، وما دامت الشركة قادرة على إيجاد موظفين سعوديين يؤدون العمل فإنها لن توظف أحدا من جنسيات أخرى”. لقد كانت السعودة “التوطين” قرارا استراتيجيا برز في أهم مكونات الاقتصاد السعودي، ويبدو أنه خيار لا مفر منه؛ وإن علت أصوات ناقدة تجاهه بين فترة وأخرى، فهذه البلاد لا تُبنى إلا بسواعد أبنائها، وإذا كانت أرامكو التي تشكلت من أربع شركات عالمية أواخر الأربعينات الميلادية لا توظف إلا عددا قليلا من السعوديين في وظائف متواضعة كـ”الساعي” النعيمي الذي دخلها عام 1947 فإنها الآن تضم عشرات الآلاف من السعوديين، وهنا فالتشارك في بناء الوطن كان قيمةً وعرفا ظاهرا في المسيرة التي تحدث عنها النعيمي.


 
حتمية التعليم: 

يحكي النعيمي عن تجربته الخاصة التي ساقته الظروفُ والحظُّإليها، وهي التعليم، فقد درس في مدرسة “الجبل” التي افتتحت في الحي السكني عام 1941 بعد أن كانت غرفة صغيرة في بيت أحد مترجمي أرامكو، وفي “الجبل” يتلقى عدد من السعوديين علوما مبسطة في الإنجليزية والعربية والحساب والجبر، فيما كان بعض الفتيات يتلقين تعليمهن في البيوت عن طريق معلمات من شركة أرامكو، يقول النعيمي عن تلك الفترة:” شعرنا نحن الصبية إذ نرى شموخ المدرسة وموقعها أن المملكة العربية السعودية جادةٌ في تعليم شبابها، وشعرتُ أن عليَّ استيعاب كل ما تقدمه المدرسة إن رغبت في أن أصبح جزءا من التحول الكبير الذي أشهده” وليس غريبا أن يكون من أهم اشتراطات الاتفاقية المبرمة لإنشاء أرامكو من تحالف أربع شركات أمريكية أن تتولى تعليم المواطن السعودي على صناعة النفط وأن تدرِّبه التدريب اللائق.

ويطرح النعيمي في سياق حديثه عن مراحل تكوينه التعليمي أمثلة بارزة تدلِّل على اهتمام الدولة بالنابهين وابتعاثهم للدراسة في الكلية الأمريكية في لبنان وبعض الجامعات الأمريكية حيث حصل ـ حينها ـ النعيمي على البكالوريوس في الجيولوجيا من جامعة ليهاي في بنسلفانيا، والماجستير من جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، ليعطيك شواهدَ مبكرةً على الاهتمام بالتعليم وأنه أساس التنمية ومقتضى التطوير، وحين تقارن تلك الحالة المبكرة بدعوات الانكفاء الداخلي في التعليم ستستغرب حتما!! ويواصل النعيمي محدِّثا إياك عن تواصل الحركة التعليمية في المملكة حتى تأسيس بيت الحكمة “جامعة كاوست” التي أشرفت عليها أرامكو بأمر من الملك عبدالله رحمه الله، والنعيمي إذْ يؤكد على النماذج التي تسنَّمت المناصب الإدارية في صناعة النفط في المملكة يخبرك أن التعليم خيار استراتيجي لها لا يمكن أن تتنازل عنه.

الانفتاح والعدالة: 

في سردٍ خلّاب يحكي النعيمي عن مرحلة التفاوض من أجل التنقيب عن النفط في المملكة، وهي مرحلةٌلم يشهدها؛ ولكنه تكلم عنها بأريحية وشفافية، ذكر فيها توجس الملك عبدالعزيز والفريق المفاوض من النزعة الاستعمارية التي تصبغ طبيعة الشركات البريطانية، وذكر أيضا إدراكَ الملك والفريق المفاوض للطبيعة الانتهازية للشركات الأمريكية، ويحكي النعيمي مراحل المفاوضة التي انتهت بالانفتاح على الجانب الأمريكي الذي كان بعيدا جدا عن واقع البيئة السعودية، والذي جاء على لسان الملك لأحد مستشاري النفط الأمريكيين حينها: “أنتم بعيدون جدا”، وهذه تحكي طبيعة الانفتاح في المملكة العربية السعودية، وستجد قصصا مثيرة للنعيمي بعد توليه رئاسة أرامكو وبعد توليه وزارة النفط تشير إلى انفتاح اقتصادي تبعه انفتاح سياسي وثقافي وتعليمي على رياح الشرق الهابة من جهة الصين وكوريا واليابان ومثيلاتها في منتصف التسعينات.

والانفتاح خيار آخر في السياسة السعودية تستشفه من قراءة الكتاب مثل الانفتاح على الجانب الروسي، فحين تكون المصلحة يكون التعاون، وذلك في حدود القيم والتقاليد المرعية، وجانبٌ آخرُ يظهره النعيمي حين يتحدث عن عالم النفط يبيِّن لك عدالة المملكة في قضاياها، ولعل أبرز مثال على ذلك هو إنشاء أرامكو، ففي الوقت الذي سعت فيه دول عديدة يجري التنقيب فيها عن النفط إلى استغلال عدد من الأحداث السياسة فيما يعرف بالتأميم وتملُّك الشركات، كانت المملكة تتفاوض مع الشركات صاحبة حق الامتياز في التنقيب التي بدأت عام 1933 في الاستحواذ عليها، ولم تنتهِ هذه العملية إلا في عام 1980 عبر تسديد آخر دفعة مالية للتملُّك، وأُبقِيَ الوضع إداريا كما هو حتى عام 1988، وهو العام الذي أصبحت فيه أرامكو سعودية صرفة، وهذا الجانب السردي الذي تخلل الكتاب ينبئك عن مدى العدالة التي تتعامل بها الدولة مع قضاياها الاقتصادية والسياسية حتى الآن، وغني عن الذكر إشاراته المتعددة لاهتمام ملوك الدولة بقضايا التنمية والتطوير والتحديث التي انبثقت عن تدفق البترول من منابعه، واستثمار العوائد في ذلك، ويمكن الرجوع إلى تفاصيلها في الكتاب . 

نصف المجتمع: 

اللافت في الكتاب إهداؤه العاطفي الممتن لشريكة العمر “ظبية” يقول: “أهدي هذا الكتاب إلى زوجتي ظبية، التي لولا حبها ودعمها، لما أبصر هذا العمل النور” وهي امرأة متعلمة تزوجها بطريقة تقليدية، يقول: “وحين سألته ما إذا كنتُ أستطيع رؤية أخته؟! وافق بكل سرور، فدخلت فتاة فاتنة الجمال، بهية الطلَّة، زادها حسنا شعرٌ مموَّج شديد السواد، لا تتجاوز السادسة عشرة أو السابعة عشرة إذ كانت تدرس سنتها الأخيرة في الثانوية” هذه الجميلة تآزره في مراحل عمره بداية من الدراسة في مرحلة الماجستير التي قضياها سويا في كاليفورنيا. 

وفي الكتاب نتفٌ يسيرة عن أمه البدينة القصيرة لطيفة المعشر، التي تتشح بالسواد كأغلب نساء البادية، والتي تزوجت ثلاث مراتٍ، وعن مهرها الناقةِ البيضاء الرائعة، وفي الكتاب علاقةُ تعلُّم تجمعُ بين الفتى الطامح إلى العلم، ومعلمته في المدرسة الآنسة “هيلين ستانوود” التي كانت صارمة صرامة نافعة، وفي الكتاب حديث أكثر رسمية في ضرورة تسنُّم النساء مناصب القيادة والإدارة متى امتلكن أدواتها تعليما ومعرفة، ويسوق لذلك أمثلة ممن تبوَّأن المناصب القيادية في أرامكو، مثل مهندسة البترول نائلة موصلي، والقائدة الإدارية هدى الغصن، والمهندسة الكهربائية نبيلة التونسي، وكان أنْ بلغ العنصر النسائي 1281 موظفة في عام 1980 وهو رقم يعكس اهتمام الدولة بإشراك النساء في عملية التنمية، تشعرُ وأنت تقرأ الكتاب بروح آمنت بالمرأة شريكةً ودافعةً ومسؤولةً.

النفط مجرد سلعة 

في الكتاب ستطالع حديث النعيمي عن النفط، بدايةً من اعتباره مظهرا جديدا يزيد في دخل الدولة بعد تدني دخل الحج وقتها نتيجة الظروف السياسية العالمية، ثم استثمار هذا النفط في عملية تنموية اقتصادية صاحبتها عملية تنموية اجتماعية في الجانب التعليمي على وجه الخصوص، ثم تطالعك فصولٌ موسعةٌ عن حكايات الفتى البدوي النحيل المسكون بهواجس البادية، والمنفتح على عالم براغماتي “نفعي” بأدوات تعليم جيد، والمستثمر لثقة مطلقة ومتزنة من ملوك البلاد في إدارة أهم مصدر للدخل يضمن وتيرة التنمية والتحديث، ويكفل العيش الكريم، فصول تتحدث عن المصاعب الشاقة في اكتشافه، ثم عن المصاعب الأشقِّ في استخراجه، ثم الأشقِّ بدرجة متناهية في تصديره وتسويقه، لقد عايش القارئ أحداثا مريرة أثَّرت على مسيرة النفط في العالم منها الاعتداء الثلاثي على مصر، والحرب العربية الإسرائيلية، ثم الثورة الخمينية في إيران، والحرب العراقية الإيرانية، وحربا الخليج الأولى والثانية، وأحداث الأزمة المالية 2009، وأحداث ما يعرف بالربيع العربي 2011، حتى انهيار أسعار النفط في 2014.

 

وخلال ذلك كله، يتحدث عن إدارة المملكة لتداعياتها ويسرد النعيمي مركِّزا على مواقف الملك فيصل والملك فهد والملك عبدالله رحمهم الله، ومستشهدا بإدارة وزراء البترول في تلك الحِقَب كعبدالله الطريقي ثم أحمد زكي يماني ثم هشام ناظر، ثم فترته التي اقتربت من واحدٍ وعشرين عاما، وهو حديثٌ فيه كثير من الإثارة والدرامية، والقرارات الحادةفي طريقة إدارة أسواق النفط، وفيه إشارة لأهم النجاحات وأبرز الأخطاء التي ارتكبت، وبناء عليه أهم التضحيات التي عانت منها الدولة وتأثر بها المواطنون، فسيقرأ القارئ تفاوضا بائسا على النفط مقابل دولارين، ويقرأ تفاوضا آخر في ظرفٍ مختلف يفوق المئة دولار، ويقدم حينها النعيمي خلاصة التجربة فيقول : ” لا أظنه يخفاك وقد قطعتَ هذا الشوط في قراءة الكتاب أن الجهود الرامية لضبط أسعار النفط وإدارتها تذبذبت على مر العصور، وأقول هذافي أحسن الأحوال، فالنفط هو سلعةٌ أولا وأخيرا، والطلب يزيد ويقل، والسعر يعلو ويهبط” ويقول أيضا: “مهما ارتفعت الأسعار أو انخفضت ستبقى المملكة العربية السعودية أعلى مورِّدي الطاقة ثقةًفي العالم”.

ولعل من يقرأ في الكتاب يلمح بوضوح إشارات النعيمي إلى غموض هذا السوق، وتنوع البدائل المطروحة قوة وضعفا، إلا أن المملكة قد حباها الله ذات القوة في البدائل المطروحة كالطاقة الشمسية مثلا، ولعلك تلمح بوضوح أكبر تحفيزه الدولة إلى ضرورة العمل على توفير بدائل دخل تقيها تقلبات السوق النفطية، والقارئ الحاذق حينها أمام تبشير رمزي برؤية جديدة في العمل الاقتصادي ربما تعكسها رؤية السعودية 2030

ستفرغ من الكتاب وأنت أمام تجربة ثرية من العرق والجهد والحظ كما قال النعيمي، لكنها تستحق أن تكون شاهدا على عصر من البناء اتَّحدتْ فيه السواعدُ السمراء المتيبِّسة من شظف العيش وقسوته حكاما وشعبا ليصنعوا دولةً ناهضةً فتيةً عاشت تقلبات اقتصادية حادة، لكنها تعتمد بعد الله على عنصر الإنسان الأصيل والمواطن الصالح الذي يديرُ نعم الله عليه ويستثمرها فيما يعود عليه بالنفع والفائدة، ويظلُّ كما قال النعيمي وهو يسير في الثمانينات من عمره: “مواطنا ينتمي إلى المستقبل، ويحمل نظرة تفاؤلية، فمن يدري ماذا سيحمل لنا الغد ؟!” 


  

ذات صلة

المزيد