الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الإنسان بطبيعته يعشق التقليد للحد الذي ما تلبث فيه الأفكار الجديدةُ جديدةً إلا ويلحق برَكْبها الجميع فتنطبخ في قدور المقلدين إلى أن تحترق، وهكذا نظل نستهلك أفكارنا ونكررها حتى يخفت وهَجها وتبلى أسمالُها لكثرة من طرقوها وأعادوا تدويرها، ما إن حمل اثنان من المحترفين كاميرات تصوير قبل عدة سنوات إلا وعلق المجتمع بشبابه وفتياته وأطفاله حبال كاميراتهم حول رقابهم وعانقوا عدساتها محاكاةً للمصورين، وما إن صور أحد المشاهير نفسه عبر سنابه الشخصي في مكانٍ ما إلا هرول الآخرون كذلك للتصوير بذات الطريقة وذات المكان، وعندما جرَّ أحدهم عربة الفود ترك في أحد الشوارع الفارهة جرَّ الآخرون عرباتهم الملونة بذات الطريقة وذات الأسلوب، وعندما أعدت إحداهن قطعاً من الحلوى اللذيذة ونشرت منتجاتها عبر الانستغرام تقاطرت الفتيات لمحاكاة هذا النوع من الأعمال.
وأجمل ما في الأمر –رغم ظاهرة المحاكاة- خلال هذه السنوات هو انكسار جدار الجليد الذي ظل حاجزاً للأجيال عن العمل الحر، وبانكسار الجدار تتعزز ثقافة العمل شيئاً فشيئاً حتى يتحول هذا النوع من الأعمال إلى دعامة اقتصادية منتجة ذات قيمة مضافة، إلا أن نتائج الأعمال الحرة كان من الممكن أن تصبح أكثر إسهاماً في الناتج المحلي لو تعززت لدى مجتمعنا روح الابتكار الذي عادةً ما تحول دونه ظاهرة المحاكاة.
إن جامعاتنا التي تعد من أهم حاويات الأفكار يجب أن تضطلع بدورها في تعزيز الابتكار ودعم المبادرات الريادية ذات القيمة الاستثمارية الناجحة، وأن تؤدي وظيفتها في ضخ الفرص والأفكار الريادية المتنوعة لا ضخ المزيد من النسخ المتشابهة إلى سوق العمل، وهي مهمة بالغة الصعوبة بلا شك، إلا أن العالم المتنافس لن يمنحنا فائضاً من الوقت لنهدره في تكرار الأفكار وتنميط المخرجات التي لم يعد يحتاجها سوق العمل في ظل التحديات التي تفرضها تحولات التقنية والطاقة البديلة، وما لم تكن جامعاتنا على مستوى تلك التحديات فإن الكثير من مخرجاتها “العملية” قد تكون يوماً عبئاً على الاقتصاد والتنمية كأعداد متزايدة من البطالة بسبب التشابه النمطي في المهارات والأدوات الفنية والمهنية التي تقلل فرص التميز والإبداع.
إن الزخم المتسارع لأعداد الخريجين كل عام في مشهد متكرر يمثل وقوع حوافر جامعات على حوافر جامعات أخرى وتوارد المخرجات على طريق واحد وطريقة واحدة إنما هو إعادة استهلاك لأساليب تفكير وتعليم مكررة لا تخدم الاقتصاد بحجم خطط التنمية والطموحات العالية، ما يحصل في وسائل تعليمنا وتفكيرنا هو نوعٌ من “إدمان النمطية” الذي جعلنا أمام لون واحد وطعم واحد وأسلوب واحد من الذهنية المعرفية والمهارية بسبب الاستهلاك المستمر والتدوير المتكرر للطريقة التعليمية وأسلوب التطوير المهاري، ونتيجةً للبرود الذهني عن ابتكار الأساليب النوعية وتحديثها لمواكبة الزمن ومسابقته.
بل ومن المقلق أيضاً تسارع وتيرة الاختزال المهني لمخرجات الجامعات الناشئة نحو النمطية، فالمأمول هو أن تنفرد كل جامعة عن الأخرى في إضافة قيمة نوعية للاقتصاد وللتنمية ولسوق العمل وللمدينة أو المحافظة التي أنشئت فيها لا أن تتقمص دور الجامعات الأخرى وتحاكيها في الأقسام والمناهج التعليمية والتدريب المهني، وتقتبس أسلوبها العلمي والعملي.
أتمنى أن نقف ولو يسيراً في الساحل المقابل للضفة النمطية ونعمل على توسيع دائرة الأفكار الريادية والأعمال الحرة لدى الشباب والفتيات إلى حدود الرقعة الإبداعية التي نغطي بها تطلعاتهم المادية والمعنوية وطموحاتنا التنموية والاقتصادية بما يخدم رؤية 2030 ويسهم فعلاً في إجمالي الناتج المحلي والصعود به إلى 35% خلال السنوات القليلة القادمة.
وستظل مسؤولية الجامعات كبيرة في التحفيز على الإبداع والتجديد وخلق حالة صحية من التواصل المحفز على توليد الأفكار الملهمة بين المعلمين والمتعلمين والمتعلمين بعضهم مع بعض، وتبني ورش العمل والبرامج والمشاريع الريادية النوعية واحتضانها وتعزيز فرص نجاحها و”الأهم استدامتها”، وفي سبيل نجاح ذلك كله من المهم على المؤسسات ذات الصلة -كهيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة وهيئة توليد الوظائف- دعم الجهود النوعية لمشاريع طلاب وطالبات الجامعات والاستماع إلى أفكارهم والتفكير معهم بصوت مسموع واعتبارهم حلقةً أساسية في سلسلة النجاح، لخلق منصات إسهام اقتصادي وتنموي منتج للطلاب وحديثي التخرج.
إن مجرد تبني الأفكار الحديثة في البيئة الاستثمارية يُعد عملاً إيجابياً بحد ذاته لا يقل أثراً عن النتيجة الناجحة للأفكار المجربة، فذلك يحفز العقول المبدعة على ابتكار الأفكار ويشجع مجتمع الأعمال على الترحيب بالمبادرات والتصفيق للتجارب الجديدة، ويصنع منه مجتمعاً خلَّاقاً يرى في كل زاوية فرصةً لعمل مثمر ويشق من كل طريق ألف طريق وطريقة، فقد أصبح “الابتكار” غرساً مثمراً وعربوناً نفيساً لريادة الأعمال، وضرورةً ملحّة على المستوى العام لتعميق اندماج الاقتصاد السعودي في المنظومة الإقليمية والعالمية.
ولم يعد ميدان المنافسة في هذا العالم قابلاً للمزيد من النسخ المتشابهة التي ربما لا زالت تكدسها بعض الجامعات في سوق العمل دفعات تلو دفعات سابحةً في حقول التقليد كمجموعات أسماك صغيرة تتمايل باتجاهٍ واحد وتقفز باتجاهٍ وتوقيتٍ واحد مكرّسةً صورة النمط الواحد والأسلوب الواحد والمهارة الواحدة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال