3666 144 055
[email protected]
مستشار قانوني
عندما أرادت دول أوروبا الوسطى والشرقية، ودول البلطيق التحوّل لاقتصادٍ متحررٍ، والانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية قامت بإعادة هيكلة مؤسساتها القضائية والقانونية، والعمل على استقلالها عن السلطة التنفيذية؛ مما أدى إلى زيادة ملحوظة في القدرات المؤسسية للتعامل مع القضايا القانونية بكفاءة وفعالية. وقد أعيدت صياغة الدساتير بتكريس مبدأ استقلال القضاء، وترجمة ذلك عملياً بإنشاء المجالس القضائية بهدف عزل القضاء عن السلطة التنفيذية. فمُنحت المجالس القضائية سلطات واسعة في المهنة القضائية من حيث التعيين والإقالة والإجراءات التأديبية، والتدريب، ونحو ذلك.
تعمل المجالس القضائية في الدول الأوروبية بمثابة وسيطٍ بين الحكومة والقضاء، من أجل ضمان استقلال القضاء بطريقة معيّنة، فبعض تلك المجالس تعمل كمجالس إدارة لتعيين القضاة واتخاذ الإجراءات التأديبية ضدهم كما في فرنسا وإيطاليا، بينما تقوم مجالس أخرى بدورٍ نشيطٍ في الموازنة والإدارة المالية والتنفيذية العامة للمحاكم، إضافة الى الإسكان والتعليم والمكننة كالسويد والدانمارك. وبالرغم من أن المجالس القضائية قد أُنشأت بهدف عزل القضاء والمهنة القضائية عن الضغوط الخارجية، إلا أن هيكلتها وأسلوب عملها يحدد مدى كفاءة حوكمتها في تعزيز الاستقلال القضاء.
شهدت السلطة القضائية منذ 1982 تحولاً لنظام القضاء المزدوج، وذلك بفصل ديوان المظالم عن مجلس الوزراء، إلاَّ أن ذلك كان متزامناً لتوطئة تأسيس قضاء حديث سواء بإرساء مبادئ القضاء الإداري، أو بإرساء مبادئ ما أُسند له من القضاء التجاري والجزائي المستند على نصوص نظامية. وجاء مشروع خادم الحرمين الشريفين لتطوير مرفق القضاء بالتأكيد على نظام القضاء المزدوج، وإعادة هيكلة النظام القضائي الإداري بإنشاء مجلس القضاء الإداري، والمحكمة الإدارية العليا، ومحاكم الاستئناف الإدارية، والمحاكم الإدارية، من خلال تحديث نظام ديوان المظالم. من جهة أخرى فلا تزال اللجان القضائية مستمرة في تبعيتها للسلطة التنفيذية، بالرغم من معالجة بعضٍ منها ضمن برنامج تطوير القضاء كالمحاكم العمالية.
ومع توجه الدولة لترشيد النفقات، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة لإضافة المرونة اللازمة، ومنع التداخل بينها، ظهرت الحاجة لإعادة تقييم مرجعية السلطة القضائية من حيث توحيد المجالس القضائية المتعددة في مجلس واحد، وتوحيد الجهة المشرفة على المحاكم واللجان بجهة واحدة، وذلك لعدة أسباب:
تستهدف السلطة القضائية تحقيق أهداف الدولة واستراتيجيتها، ومع تعدد المجالس القضائية تتشعب الجهود وتتشتت الانجازات وتداخل مما يعد هدراً مالياً، فبرامج التأهيل والتدريب التي يستفيد منها قضاة القضاء العام أو الإداري أو أعضاء اللجان تكاد تتماثل معالمها، كما أن أساليب التفتيش، والترقية، والتعين، والتأديب للقضاة العام والإداري تتقارب، لكنها لم تستفد من ذلك في تسريع التطوير وخفض النفقات.
إنَّ المطلع على صلاحيات مجلس القضاء الإداري، والمجلس الأعلى للقضاء، ليدرك حجم التشابه الذي لم يضفْ على أعمال السلطة القضائية مزيداً من الاستقلال، كما أنَّه خَلقَ تنافساً غير مقصود في تقديم الأفضل لمنسوبي كل قطاع على حدة، في وقت كان بالإمكان توحيد تلك الجهود والمبادرات واختصار الوقت والجهد، لاسيما في إبرام العقود الاستراتيجية وذات المدد طويلة الأمد.
من العسير العمل على ضمِّ اللجان شبه القضائية للقضاء العام في ظل غياب الإشراف على أعمالها المعنية بتحقيق السيادة، فلو كان مجلس القضاء مشرفاً على أعضاء تلك اللجان من حيث التوصية بالتعيين، والإقالة، والتفتيش، والتدريب، وذلك من خلال إنشاء حاضنة افتراضية تجمع شتات اللجان برئاسة أمين عام يشرف على تلك اللجان وله تمثيل في المجلس، ويعمل على إدارة مخصصات تلك اللجان المالية المحوَّلة من السلطات التنفيذية لحساب مُوَّحد لتلك الحاضنة، عندها ستصبح مسألة ضم اللجان مسألةَ وقتٍ بدلاً من كونها معضلة استراتيجية.
إنَّ استقلال القضاء هو غايةٌ دستورية تتحقق بغض النظر عن تعدد المجالس القضائية، فنظام القضاء الجديد فَصَل بين إجراءات التعامل مع أفراد السلطة القضائية، وبين صلب أعمال السلطة القضائية المتمثل في سيادة المحكمة العليا التي تقرر مبادئ القضاء العام والقضاء الإداري، فوجود محكمتان للقضاء العام وأخرى للإداري لم يضف على الاستقلال القضائي قيمة جديدة، أو يُسّرع برامج ومبادرات الحد من تفاوت الأحكام القضائية بصورة عامة.
إنَّ توحيد المجالس القضائية سيوفر على ميزانية السلطة القضائية مالا يقل عن 25% من النفقات الحالية بحيث تقضي على النفقات المتماثلة والمتقاربة، أو نفقات كان بالإمكان صرفها لتطوير أعمال السلطة القضائية بشكل عام عوضاً عن صرفها على نحو خاص.
فإذا توحدت المجالس القضائية، بقي الدور على «مرافق العدالة» من محاكم ولجان والتي تستهدف توفير مقرٍّ لممارسة السلطة القضائية بغض النظر عن نوع تلك المحكمة، بحيث يضم مبنى «مجمع المحاكم» في محافظة ما مختلف المحاكم، ويضم في مدينة ما محكمةً متخصصةً في نوع من القضاء، والمحدد لذلك هو حاجة المجتمع والأعمال للتوسع أو التخصص.
يعتمد الأسلوب الحديث لتشغيل مرافق العدالة على كثير من التفويض للمحاكم في كل منطقة، بحيث تُدار من قبل هيئة تضم أصحاب المصالح بالمنطقة، وترتبط تلك الهيئات بجهة واحدة معنية بوضع السياسات ومراقبة الأداء، وتحسين الإجراءات؛ لأنَّها تتداخل وتماثل في الإجراءات. وهذا ما جعل مارجريت تاتشر تخوض معارك لتقنع حكومتها بتطوير أسلوب تقديم الخدمات القضائية، تماشياً مع رؤيتها بجعل القطاع الخاص هو المحرك الأساس للاقتصاد من حيث التشغيل ومن حيث الربحية، مقابل تخفيف يد الدولة عن تقديم الخدمات مباشرة.
يرى مراقبون أن الحقبة «التاتشرية» قد انتقلت إلى السعودية منذ بدايات تخصيص بعض قطاعاتها، وانتشار مفهوم شراكات التشغيل مع القطاع الخاص «الإسناد الحكومي» كشركة العلم، وشركة التعليم القابضة للتنمية، وشركة ثقة، وشركة شموس، وبرامج التشغيل الذاتي للمرافق الصحية. وتجرية لجنة المساهمات العقارية جديرة بالتأمل من حيث خصخصة تقديم الخدمات القضائية المساندة، وبذلك تستقل ممارسة الصلاحيات الأساسية التي يمارسها القضاة عن ممارسة الصلاحيات المساندة التي يقدمها القطاع الخاص.
إنَّ الحزم هو السمة العامة لعهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله، وتحمل في طياتها مراجعات جريئة لكثير من الإجراءات والتغيرات الهيكلية؛ مما يمُهد لإطلاق لـــــ «برنامج التحول العدلي» الذي يتناول تحول قطاعات السلطة القضائية من التطوير الفردي إلى التطوير الشمولي، والمتزامن مع حزمة الاصلاحات الاقتصادية التنموية، التي أطلقتها المملكة لإزالة المعوقات الإجرائية والإدارية والمالية أمام مسيرة التنمية؛ لتحقيق الريادة والتميز العدلي.
الهبوب
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734