خروج المدير التنفيذي ؟؟!!

أكاديمي متخصص في المحاسبة
[email protected]

بعد سلسلة الفضائح المحاسبية (كما يطلق عليها اعلاميا !) و التي قادت الى خسائر كبيرة لمنشآت او استبعاد لارباح وهمية هائلة سبق الاعتراف بها او خسائر محققة تم اخفاؤها باسلوب اختلاسي حصين، اعتاد المهتمين بتلك المنشآت رؤية المشهد الدرامي نفسه فإما عضو مجلس ادارة يتبنى المسئولية ويخرج مغادرا بكل اسى وحزن او ان التهمة تظل تدور بين جميع الاطراف العاملة المعلنة للولاء وحسن الاداء( بما في ذلك لجان المراجعة واقسام المراجعة الداخلية والمدير المالي و المراجع الخارجي المستقل بالاضافة الى اعضاء مجلس الادارة بمختلفهم).

وقريبا ليس بعيدا الفضيحة المحاسبية الاخيرة والغير متوقعة التي حدثت داخل شركة تعد من اكبر شركات الالكترونيات بالعالم أجمع وهي شركة توشيبا اليابانية. اتت هذه الفضيحة لتعيد ذلك المشهد التراجيدي ولكن هذه المرة على الطريقة اليابانية (يركع المدير ويعتذر..ثم يغادر!!). لجنة التحقيقات توصلت الى ان الارباح التشغيلية تم تضخيمها لشركة توشيبا الى ما يقارب 1.2 مليار دولار خلال فترة ست سنوات تحديدا (2008-2014). وبما أن الفترة كانت بعد الازمة المالية العالمية كانت الضغوطات كبيرة على العاملين وفق الخطط الادارية العليا لتحقيق اهداف ربحية واحجام مبيعات عالية واحيانا مستحيلة. تقرير التحقيقات (بحسب التغطيات الاعلامية) عزا تلك الزيادات الوهمية في الارباح التشغيلية لشركة توشيبا الى محاولة الموظفين اليابانين الى مقابلة اهداف مجلس الادارة خوفا من النتائج السلبية لعدم تحقيق الاهداف الادارية فكان تأجيل الخسائر وبعض التكاليف اسلوبا مدروسا ومحكما(صعب اكتشافه على المراجعين) لمقابلة الاهداف الادارية المستحيلة.

اليابان كغيرها من الدول بدأت تعزيز نظام حوكمة الشركات وتفعليه في المنشآت من اجل رقابة اعلى وحماية اكبر للموارد الاقتصادية واستقرار اعلى للاسواق المالية. فكان أن طلب المعيار الاول للحوكمة باليابان من الشركات المدرجة بالسوق المالية ان تضم عضوين من خارج المنشأة ضمن مجلس الادارة لتعزيز فرص الرقابة على تصرفات الادارة التنفيذية وأعمال مجلس الادارة بشكل عام. توشيبا كانت سباقة لمتطلبات المعيار فاضافت ليس اثنين فقط وانما اربعة اعضاء من خارج المنظمة. ولكن الامر كان اذعانا صوريا لا يحقق الهدف الاساس باعتبار ان هناك اشارات ظهرت من خلال تقرير لجنة التحقيق تشير بان نظام الرقابة الداخلية لم يكن على ما يرام. وهذه مشكلة المعايير والمتطلبات القانونية حين يكون الاهتمام بها شكليا اكثر من كونه محققا لهدف محدد وهام. واساليب التعزيز للالتزام كثيره اهمها المتابعة والرقابة و اكثرها ردعا الغرامات العالية والعقوبات الصارمة.

يقول المدير التنفيذي لتوشيبا لم نقصد ان نضخم الارباح ولم ننوي ذلك ولكن تقرير المحققين اكد على ان الاهداف المستحيلة استغلت بيئة العمل اليابانية التي يكون فيها الموظف ملتزما بقرارات مديريه مطيعا لها و ذوا ولاء عالي لهم. لذا اهداف الادارة الضاغطة والصارمة كانت محفزا لاستثارة انحرافات الموظفين. لذا ما يجب ان يفهمه المدير التنفيذي أن البيئة العامة داخل المنظمة جزء لا يتجزا من نظام الحوكمة فمتى كانت المنشاة معززه للالتزام النظامي، مجرمة للمخالفات، شاكرة للموظف او العامل الذي يقف امام التجاوزات النظامية، كلما اعتقد العامل او الموظف ان نغمة الالتزام وعادة النظام تكون اقرب له من نزواته ومخاوفه. فمتى كانت البيئة العامة باعثه للمخالفة النظامية ومحفزة لها لا نعتقد ان الهياكل التنظيمية والاجراءات النظامية والمعايير المهنية والاخلاقية وحدها كفيله لكبح جماح النزوات فكل نظام بشري به من نقاط الضعف التي ممن الممكن استغلالها خصوصا مع متطلبات المنافسة العالية و الضغوطات الاقتصادية المختلفة.

المخاوف لم تقف عند المهتمين المباشرين بأمر توشيبا بل ان وزير المالية باليابان حكى المخاوف حول تزايد احتمالية اهتزاز ثقة المستثمرين في الاسواق المالية باليابان، فتوشيبا التي يقدر عمرها ب 140 سنة تعد من الشركات الرائدة في الاقتصاد الياباني تحديدا إضافة الى أن فضيحة شركة اولميبوس اليابانية ( عام 2011) لم تنسى بعد مما يجعل الامر اكثر تحديا للسوق المالية في اليابان للمحافظة على ثقة المستثمرين الاجانب خصوصا والمستثمرين عموما. حتى الوسط المهني المحاسبي باليابان بشكل خاص (ودوليا بشكل عام) امام ازمات متتالية تحتاج الى مزيد عمل فذلك التلاعب غاب عن المراجع الداخلي والخارجي واكتشف بشكل غير مخطط حين استعانت لجنة السوق الماليه بلجنة للتحقق من معلومات احد قطاعات الشركة انتهت باكتشاف ارباح وهمية بما يقارب 1.2مليار دولار ذات علاقة بكافة قطاعات الشركة المختلفة.

تجربة توشيبا من جديد ترسل الى الوسط المهني في المحاسبة رسالة هامة: فتلك المشكلة رغم ان اساسها كان غير محاسبي مرتبط بادارة عليا ذات نهم كبير لتحقيق الارباح العالية والمبيعات الضخمة انتهت بسلوك الموظفين الخائف الذي حاول مقابلة تلك الاهداف الا أن هذه المشكلة تسمى بشكل رسمي “فضيحة محاسبية”. فالمشكلة ظهرت من خلال القوائم المالية المحصلة النهائية للنظام المحاسبي والتي كانت مستقر كل تلك السلوكيات. ما يجب ان نتعلمه من التجربة اليابانية ان الامر لا يقف امام المعالجات المحاسبية للمشاكل المختلفة في مختلف القطاعات والصناعات ولا يتعلق بالانظمة المصدرة من قبل المنشآت الرقابية والهيئات المهنية وانما يتعلق ايضا بسلوكيات بشرية قد تجنح الى عمليات غير نظامية متى كان الضغط عالي والمحفز موجود. فغياب النظام الرقابي الداخلي يحفز الموظف الى احداث الخطأ دون احتمالية اكتشافه، و وجود النظام الرقابي بشكل صوري ايضا يجعل الموظف في حالة أمان وبالتالي متى تواجد الضاغط او الحافز جنح لمخالفة النظام دون حاجة لاخذ مخاطر الاكتشاف في الاعتبار.

لذا جميل ان نعرف الالية والاجمل ان ننظم ونشرعن لها ولكن علينا دوما ان نعي أن تلك التقارير المحاسبية هي في النهاية حصيلة عمل بشري وسلوك انساني. ففنون القيادة الادارية واخلاقيات المهنة ونظم الانتقاء واستقطاب الكفاءات و اساليب بناء ثقافة المنظمات والهياكل التنظيمية والاجراءات الرقابية داخل المنظمات كلها تصب في إناء واحد وهو السلوك الانساني ومحاولة ضبطه واحكام السيطرة على الموارد والحيولة دون العبث والتلاعب بها. لذا علينا كما نهتم باستصدار القوانين والمعايير الفنية واحيانا السلوكية ان نهتم ايضا بتوعية المجالس الادارية والجمعيات العمومية بالاهتمام بالسلوك الانساني. فضغط الملاك لتحقيق الارباح لا يجب ان يكون محفزا للادارة للتلاعب وضغط الادارة العليا لتحقيق الارباح والحصول على المزايا المرتبطة بذلك لا يجب ان يكون دافعا للموظفين لمخالفة النظام. القيادة الادارية واختيارها امر هام للمنشآت فهي من تحدد الثقافة السارية داخل المنشآة والتي ستمثل البيئة التي يحتك بها بشكل يومي ذلك الموظف (الانسان). ففي النهاية مدير توشيبا التنفيذي اعتذر وخرج!! لكن الموظفين باقين والمنشآة الان تبحث عن اعضاء مجلس ادارة جدد ومدير جديد وفي نفس السياق يعزو بعض الكتاب الفضائح المالية الاخيرة في اليابان الى اسلوب اختيار اعضاء مجلس الادارة المبني على العلاقة والاختيار المحدد دون تفعيل لالية الانتخاب للاختيار.

خاتمة: خروج المدير التنفيذي لا يعني دائما كونه المتسبب الأول وانما يعني دائما انه المسئول الاول عن ما يحدث من تحته. لم يجرم بعد احد من المدراء المتصلين بتوشيبا لكن خروجهم كان هاما ولو من الناحية النفسية للمهتمين بالشركة بان اجراءا ما قد تم ازاء الازمة المكتشفة. فأزمة مالية بدأت بضغط اداري خلف مخاوف نفسيه أوجد مشاكل مالية انتهى باجراءات تصحيحة ابتدأت بمسكنات نفسية لذا العامل النفسي والسلوكي (كنتيجة) مهم جدا ونحن نكثر من الحديث حول فعالية حوكمة الشركات والاجراءت الرقابية.
النفيسة