لا يختلف الاقتصاديون وغيرهم في أن الإنتاجية هي العنصر الضروري المعتمد للتقدم، فمهما استمر دخل النفط فإنه لن يكفي لتطور المجتمع، خاصة أن التقدم الحقيقي له استحقاقات تتعدى توافر المال. السعي للمال على حساب إنتاجية جماعية يحقق أهدافا شخصية تهزمنا مجتمعين. أحد مسببات تأخر الإنتاجية والإدارة الفاعلة في الاقتصاد الوطني هو تآكل فاعلية وسيطرة الجهاز البيروقراطي على بعض نواحي الاقتصاد. نحن في حاجة ماسة لفاعلية وسيطرة تبعدنا عن الشخصي وتقربنا للجمعي لتفعيل وتصاعد الإنتاجية. الجهاز البيروقراطي هو الحلقة بين القيادة والفعاليات الاقتصادية من أفراد إلى شركات “هدف وميدان الإنتاجية”. هذه الحلقة تعاني عيوبا هيكلية مثل تنامي حجمها وارتفاع تكلفتها، وعيوبا نوعية مثل انخفاض مستوى الكفاءة في كثير من كوادرها أو الدقة في معرفة حدود مسؤوليتها، وعيوبا في تصرفاتها مثل عدم التنسيق فيما بينها غالبا أو الفساد أحيانا. عملية إدارة التنمية والتقدم من التعقيد إلى حد أنه يصعب التنبؤ بمصادر التغيير إيجابا أو سلبا. استمرارا لهذه الصعوبة يبدو أن التقدم الإيجابي لدينا بدأ في وزارة الداخلية وليس في الوزارات المعهود إليها بالتقدم مثل الاقتصاد والمالية أو التعليم أو مؤسسة عامة أو خاصة أخرى.
يلجأ البعض لدينا إلى مقارنات ودروس سطحية بالمقارنة بألمانيا واليابان وسنغافورة من خلال التركيز على القطاع الخاص ولكن الفرق المؤثر الحقيقي كان ولا يزال في جودة وكفاءة الجهاز الحكومي. نجاح القطاع الخاص محرك الإنتاجية يبدأ حين تقوم الأجهزة الحكومية بتأسيس إطارات مؤسساتية تحكم وتنظم تطور الفعاليات. في هذه الأيام تتركز الأنظار على الصين وخاصة دور الجهاز الحكومي في إدارة التحول من اقتصاد مركز ثقله في التصدير والتصنيع، إلى ثقل جديد في الاستهلاك والخدمات. أحد أهداف التحول إعادة هيكلة وتقليص الجهاز الحكومي، فلا يمكن الحديث عن التخصيص دون تقليص حجم الجهاز الحكومي في الصين أو المملكة. ما زلنا بعيدين عن حراك من هذا النوع، ولكن هناك بصيص من الأمل يأتي من وزارة الداخلية يتمخض في دور شركة علم والمركز الوطني للمعلومات وخاصة نظام “أبشر” الخدمي. هذه الأنظمة أسست قاعدة معلومات شخصية وفردية في غالبها بحكم دور الوزارة ولكنها بدأت تمتد تدريجيا لنواح عملية أخرى متمثلا بدور “علم” في قطاع الاستشارات من ناحية، وبحكم العلاقة العضوية بين المعلومات والحقوق. الحقوق مؤسسة لا يمكن تخيل أن يحدث تقدم دون حيويتها. نتحدث عن القضاء والاستقدام والرسوم على الأراضي والشفافية والفساد، ولكن دون منظومة معلوماتية يصعب أن يحدث تقدم في توفرها ودقتها وشفافيتها وسهولة الوصول إليها. العلاقة بين المعلومة والاقتصاد واضحة، ولعل أفضل مثال حي يتمخض في الجدل حول الأراضي وتوثيق الملكية. اقتصاديا حان للأجهزة الاقتصادية أن تطور القدرات التحليلية وتعظيم الاستفادة منها في السياسات العامة. ما يهمنا هنا أن وزارة الداخلية صنعت لنواة تتعدى دور الوزارة المعهود لتؤسس لنواة معلوماتية وتحليلية تكفي لإعادة تأهيل الجهاز البيروقراطي وجعله في نسق يخدم الاستحقاقات الاقتصادية الحديثة. الخطوة اللاحقة أن يتطور مركز الإحصاءات العامة ويلحق بـ «الداخلية» في التطور المعلوماتي والتحليلي.
في المدى المتوسط يمكن لمركز الإحصاءات بالتعاون مع أجهزة الداخلية توفير المعلومات عن المصروفات والدخول والرسوم والدعم وأنماط الاستهلاك والتجارة والصناعة والطاقة من خلال التنسيق مع الأجهزة الحكومية ذات العلاقة. تحدثنا عن الحقوق ولكن الركيزة الأخرى مؤسساتيا تتمثل في منظومة حكومية فاعلة تكون فيها المالية العامة وإدارتها اقتصاديا مصدر قوة لدور الحكومة في قيادة التنمية.
نقلا عن الاقتصادية