3666 144 055
[email protected]
مستشار قانوني
قِيلَ للشيخ محمد عبده أنَّ رجلاً قد حَفظَ متن البخاري كله، فقال «لقد زادت نسخة في البلد!»، حيث عَنَى أنَّ قيمةَ هذا الرجل لا تزيدُ عن قيمة نسخةٍ من كتاب البخاري، لا تَتَحرك ولا تَعي الواقعَ، ومصداقُ ذلكَ قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ». لذا فقد جَعَلَ صلى الله عليه وسلم للتأهيل قيمةً عَمَليةً حيث قال «خُذوا القرآن من أربعة، من عبدالله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبيِ بن كعب»، وقال «أَفْرَضُ أُمتي زيد بن ثَابت، وأقضاهم عليٌّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل».
لقد استحضرَ علماءُ الإسلام أهمية ربط التأهيل العِملي والعَملي بمعاييرَ تُجيزُ لحاملها ممارسةَ العلمِ أو العمل، ومن هنا بَرز مصطلح «الإجازة» المستهدفِ توثيقَ التأهيل، فَنشأت الإجازة لعلوم القرآن الكريم ومرويات السنة المطهرة، وتطورت حتى شملت مختلف العلوم والمهن كإجازات الفقهاء، والقُضاة، والخطَّاطين، والشعراء، والأطباء. وقد سَرَد القلقشندي في «صبح الأعشى» أمثلةً تؤكدُ مكانة الإجازة كشهادةٍ مرسومةٍ تأذنُ لحاملها بالتدريس العام والإفتاء. بل إنها أصبحت شرطاً لممارسة المهن منذ العهد العباسي حيث قال «لما كان في سنة تسع عشرة وثلاثمائة اتصل بالمقتدر أن غلطًا جرى على رجل من العامة من بعض المتطبِّبين، فمات الرجل، فأمر بمنع سائر المتطبِّبين من التصرف إلا من امتحنه سنان بن ثابت، وكتب له رقعةً بخطه بما يُطلق له من الصناعة، فصاروا إليه وامتحنهم».
يرى مراقبونَ أن عصور الجمود الإسلامي فرضت التقليد عوضاً عن الاجتهاد، فكانت مساحة حرية الرأي أضيق، وظَهرَ أثرُ ذلكَ بارزاً في تأخر المسلمين وتقدم الغرب الذي تَلقَّف نتاج الحضارة الإسلامية «ومنها فلسفة الإجازة» وصَهْرها في الثورة الصناعية، والتي من أبرز معالمها تقنينُ مقاييس ممارسة المهن والعلوم «Standardized Test»؛ فانعكس ذلك على الارتقاء بالمستوى العِلمي لديهم. ومع عصور الهيمنة الاستعمارية عادت فكرة مقاييس الممارسة للدول العربية شيئاً فشيئاً بحسب حاجة كل مهنة.
تُعد نقاباتُ المحامين بيتُ تطوير المهنة، لذا تتطلب بعض قوانين المحاماة العربية اجتياز امتحان النقابة « Bar Exam» الذي يفحص خرجي مدارس الحقوق، وفقًا لنوعية الخدمات القانونية المتطلبة في البلد، ويُعد اجتياز امتحانِ النقابةِ العقبةَ الأكبرَ للحصول ترخيصِ مزاولةِ المهنةِ. إنَّ اختباراتِ المهنةِ القياسية أحدُ معالم تطوير مهنة المحاماة؛ لكونها تحمى الموكِّل «المجتمع المستفيد» من خلالِ ضمانِ الحدِّ الأدنى للمعرفةِ والمهاراتِ القانونيةِ. وتتنافس كل الدول المتقدمة كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في جودة وشمولية الامتحان على نحوٍ يضمن أن يحقق المجتاز المعرفة اللازمة لآلية إجراءات المحاكم، والقانون الواجب التطبيق، وأخلاقيات المهنة؛ مما يصنع محامياً متميزاً. وتتنوعُ تلكَ الامتحاناتِ بين كتابيةٍ وشفهيةٍ وتختلف طولاً ومراحلاً، بحسب حجم المعرفة والمهارات المطلوب اكتسابها لكل بلدٍ. ولا تزال مهنة المحاماة في بعض الدول العربية تحتاج إلى رفع مستوى التأهيل المهني؛ وفقاً لتقارير دولية. في المقابل أعلنت نقابة المحامين الاردنيين أن نقابة المحامين في انجلترا وويلز أدرجت نقابة المحامين الاردنيين ضمن النقابات التي يحق لمنتسبيها مزاولة المهنة في انجلترا بعد اجتيازهم امتحانًا يُعقد لهذه الغاية.
إنَّ إلزام المجتمع بالاستعانة بالمحامي لابد أن يتماشى مع معايير قياسية توثِّق التأهيل، وهذا ما يجعل الاستعانة بالمحامي في الأنظمة السعودية «جوازياً» إلاَّ فيما يتعلق بالإدراجِ في السوق المالية حيث تُوجب المادة «5» من قواعد التسجيل والإدراج تعيينَ محامٍّ مرخصٍّ.
تستندُ ثقة المجتمع بتأهيل المحامي إلى حصوله على ترخيص مزاولة المهنة من الجهة المعنية بعد تأكدها من كفاءته، وتخضع معايير الترخيص لتقييمٍ دوليٍّ، فمثلاً مؤشر إصلاح مهنة المحاماة «Legal Profession Reform Index» الذي تبنته نقابة المحاميين الأمريكيين «American Bar Association» يقيمُ مهنةَ المحاماة بالدول من خلال شروط منح الترخيص. وبالنظر إلى نظام المحاماة السعودي يتضحُ أنَّ التأهيل العلميَّ هو أساس الترخيص، ويُعوَّض نقص التأهيل بمرور سنوات في طبيعة العمل، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ الحاصل على شهادة الماجستير يحتاجُ لخبرة سنة واحدة، في حين يُعفى الحاصل على شهادة الدكتوراه تماماً من شرط توفر الخبرة؛ مما يدل على أن الخبرةَ المهنية مجرد مرور سنوات تأهيل أكاديمي بدون التأكد من توفر مقاييس محددة تختبر كفاءة التأهيل المهني أو ملائمة الخبرة للمهنة.
قال الأصمعي «كلُّ علمٍ لا يدخل مع صاحبه الحمَّام فلا تعُده علمًا!»، والمقصود أن للعلم أهدافاً تحدد فائدته، لذا قال أحد الفقهاء «إذا كنت في السوق كان العلم في السوق»، والمراد أنَّ الفقه العَمَلي ثمرةُ الفقه العِلمي، وهو ما أشار إليه ابن القيم بقوله «والواجبُ شيءٌ والواقع شيءٌ، والفقيهُ من يطبق بين الواقع والواجب». ولذلك كانت تلك الفئة محلَّ تمحيصٍ وتجربةٍ، فقد كشفت إحصائية ـ20 عامًا لهيئة المحاسبين السعوديين القانونين أنَّ 90% من المحاسبين في السعودية رسبوا في اختبارات الزمالة التي تُعَدُّ متطلباً أساسياً للحصول على ترخيص المهنة، فالاختبارُ يهدفُ إلى قياسِ كفاءةِ الأفرادِ المتقدمينَ من حيث المعرفة النظرية والقدرة على تطبيقها بمهارةٍ، وقياسُ مدى إدراك المسؤولية المهنية، والصفات السلوكية التي يتعين التحلي بها، والاختبار يتكونُ من خمس مواد، هي: المحاسبة، المراجعة، الزكاة والضريبة، فقه المعاملات، الأنظمة التجارية. وأصبح معلوماً أن الزمالة السعودية للمحاسبين القانونيين من أقوى الشهادات في المنطقة فلا يجتازُ هذا الاختبار إلا المتميزون مهنيًا. وتأكيداً لذلك فقد أُعفي الحاصلون على زمالة الهيئة من موادٍّ في اختبارات CMA و CIA الأمريكية، كما اختار الاتحاد الدولي للمحاسبين الهيئةَ السعوديةَ للمحاسبين القانونيين ضمن 16 هيئةً مهنيةً على مستوى العالم يُمكن الاستفادة من خبراتها في مجال تطوير مهنة المحاسبة والمراجعة.
لقد تَركَ المركز الوطني للقياس والتقويم «قياس» بصماتٍ على التأهيل المهني، حيث طوَّر الاختبارات المهنية مستعينًا بمجموعة من الخبراء المتخصصين؛ للتحقق من توافر الصفات والمؤهلات المطلوبة في الأشخاص المتقدمين لشغل المهن الوظائف. ومن المبادرات في المجال العدلي: اختبار هيئة التحقيق والادعاء العام، وذلك من أجل توظيفهم في العمل الذي يتناسب مع قدراتهم ومهارتهم الشخصية، وأيضاً اختبار الهيئة السعودية للمهندسين الذي يهدف إلى قياس الكفاءة والمعرفة الهندسية الأساسية لخريجي الهندسة سواء الخريجين حديثاً أو من هم على رأس العمل، ويعتبرُ هذا الاختبار خطوةً أوليةً نحو اختبار هندسيٍّ مهنيٍّ ثانٍ يؤدي في النهاية إلى الحصول على رخصة مهندس محترف معترف بها.
وتعكفُ وزارة العدل في مشروع الاعتماد المهني للقضاة بالشراكة مع المركز الوطني للقياس والتقويم؛ بهدف إعداد معايير متعددة مهنية وأكاديمية لإعداد القضاة، وإعداد معايير واضحة للمتطلبات الأكاديمية التي يجب أن تتوفر في الكليات الشرعية التي يرُشح منها القضاة، بحيث لا يُــرَشحُ إلا من الكليات التي يتوفر فيها الحد المطلوب من هذه المعايير، ومعايير أخرى للترشيح للقضاء تساند لجان الترشيح المنتشرة في الكليات الشرعية، وصولاً إلى تلك المعايير التي تقيس أداء القاضي التي يحتاجها التفتيش القضائي في تقييم أداء القاضي، وغيرها من الأدوات التي تقدم تفصيلاً دقيقاً عن احتياجاته التدريبية، وهذه المعايير المشار إليها تشمل المعايير المعرفية، والمعايير الشخصية وغيرها من معايير القياس المهني.
من جهة أخرى فقد استشرف معالي وزير العدل الدكتور وليد الصمعاني تفعيل دور هيئة المحامين من خلال بناء الهيئة على أسسٍ علميةٍ، وإجراء اختبار للمحامين المتقدمين بطلب رخصة المحاماة، وتفعيل دور الاعتماد المهني للمحامين، الأمر الذي يُبشر بالتحول من عصر التأهيل بمرور السنوات إلى اختبار الأداء والقدرات.
الهبوب
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734