3666 144 055
[email protected]
مستشار قانوني
منذ نُقِلَ مقر الشركة العربية الأمريكية للزيت «أرامكو» للظهران في عام 1950م، والشركة تُعدُّ أيقونة العمل الصناعي والإداري بالمملكة، حيث نقلت من الغرب التقنية الصناعية والخبرة الإدارية. بل إنِّ خبرتها المتراكمة هَيَّأتها لتكون مع الوقت أحد بيوت الخبرة التي تتحدث عنها أعمالها وإنجازاتها في البُنى التحتية والمشاريع الحيوية في شتى المجالات: كالمدراس والمعاهد والجامعات، والملاعب الرياضية، والمنشآت الترفيهية، والمرافق الصحية، والتصدي لحالات الأوبئة، ومشاريع الصرف الصحي، كل تلك الأعمال ليست ضمن أغراض الشركة الأساسية المعنية بعمليات التنقيب عن النفط والغاز وتكريره.
إنَّ دور أرامكو كان ريادياً يتحرك مع حاجة الأعمال، فقد أسهمت جهودها في سَنِّ نظام العمل والعمال عام 1947م الذي يُعد من أوائل قوانين العمل في الخليج والدول العربية التي تعاقبت بعده بسنوات، كما أن الشركة أسهمت في تقنين إجراءات التقاضي من خلال قنوات ولجان عمالية بمكاتب العمل للفصل في النزاع العمالي على درجتين، خاصةً وأنَّ اللجان العمالية أول الجهات القضائية التي التزمت بعلانية الجلسات، وإجراءات المرافعات الحديثة.
إنَّ البحث في مكونات ريادة أرامكو يقودنا إلى معرفة أن أدوات الإدارة الحديثة هي القائد للإنجازات، فكما قال أوليفر شيلدون -أحد رواد علم الإدارة وفلسفتها- «الإدارة وظيفةٌ في الصناعة يتم بموجبها القيام برسم السياسات، والتنسيق بين أنشطة الإنتاج والتوزيع والمالية، وتصميم الهيكل التنظيمي للمشروع والقيام بأعمال الرقابة النهائية على كافة أعمال التنفيذ».
حددت المادة 44 من النظام الأساسي للحكم سلطات الدولة، ومنها السلطة القضائية وأن الملك هو مرجع تلك السلطات، وحيث إنِّ المملكة تَتَبنى نظام القضاء المزدوج الذي يفصل بين القضاء العام والقضاء الإداري؛ فإنَّ ذلك أوجد غياباً لرؤية شمولية تعمل على إعداد سياسة للقضاء في الدولة والأهداف المتوخاة منه. فالقضاء ليس غايةً بحدِّ ذاتهِ وإنمَّا جهةً خدميةً لمستفيدين. وبصورة عامة فإنَّ للقضاء «3» مسارات تحدد هوية المستفيدين: مسارٌ يساند حماية حقوق الإنسان، ومسارٌ يساند الجانب الاجتماعي، ومسارٌ يساند بيئة الأعمال والاقتصاد. إنَّ تحديد المسارات العامة التي يخدمها القضاء يقودنا لمعرفة الأهداف التي يسعى القضاء لتحقيقها لصالح مستفيديه. فعلى سبيل المثال: يؤثر القضاء على بيئة الأعمال والاقتصاد من خلال مساهمته في الشفافية ووضوح التشريعات القضائية، واستقرار مبادئه وقواعده، وإنفاذها بحزم ناجز، وقدرته على إيصال الحقوق لأصحابها، واستقلال القضاء وحياده، وغياب الفساد، وسيادة القانون، والمصداقية والثقة العامة للمستفيدين منه.
إنَّ بيئة الأعمال تنظر إلى القضاء كمرفقٍ خدميٍّ إمَّا مساند أو معوق للتنمية والاستثمار، فمحصلة دعاوى المستثمرين مع الدولة أو مع موظفي شركاتها أو مع عملائها لا تُفرِّق بين المحاكم الإدارية أو العمالية أو التجارية أو اللجان شبه القضائية؛ لأن الغاية النهائية هي الوصول إلى الحقوق، وسهولة ممارسة الأعمال. فالنظرة الشاملة للقضاء تتطلب صياغة استراتيجية وسياسة عامة للدولة تتضمن الرؤية والرسالة والمعالم الأساسية التي يستهدف القضاء تحقيقها لمستفيديه. والتي تُترجم لاحقاً عبر خطط تشغيلية ومبادرات ذات خطٍّ زمنيٍّ، وخطط مالية «ميزانيات». والمتأمل في إعلان الميزانية الحالية، وكذلك بيـانات وزارة المالية حـول ميـزانيـة الدولـة للأعوام السابقة؛ ليجدُ أنَّ بنود الميزانية موضحة إجمالاً لقطاعات كالصحة والتعليم والبلديات والدفاع والإسكان، وقد غاب قطاع السلطة القضائية عن توضيحٍ مماثل.
إنَّ إِعداد ميزانية القضاء هو انعكاس لحاجة القطاعات المستفيدة وفقاً للتقدير السنوي، فمثلاً فإنَّ متوسط ما خُصص للفرد من ميزانية قطاع العدالة في دول الاتحاد الأوروبي هو 60,6€ يورو أي ما يعادل 275 ريالا، وخصصت دبي ما نسبته 20% من ميزانيتها لقطاع العدل والأمن. هذا التخصيص يشير إلى تكلفة توفير العدالة للفرد، لكنه لا يقيس مدى كفاءة الخدمة، وملائمتها لحاجة المستفيدين المتعددة والمختلفة جغرافياً.
إنَّ مسؤولية تطوير السلطة القضائية بالدولة ليست مناطةً بوزارة العدل وحدها، فالسلطة القضائية في المملكة تتكون من القضاء العام، والإداري، واللجان شبه القضائية. كما أن للجهات المستفيدة حاجة ماسة في تطوير إجراءات السلطة القضائية؛ لأن هناك فرقاً بين احتياجات إقامة العدالة وحمايتها، وهناك فرقٌ بين المبادرات الانفعالية أو التفاعلية لحل «مضايق القضاء»، ومن شأن هذه النظرة تحديد الحاجة لإجراء التدخلات الهيكلية «Structural Interventions» المتضمنة: تطوير التشريعات، والمؤسسات وحوكمتها أو التدخلات الجزئية «Micro interventions» التي تشتمل على البرامج والمبادرات المحددة. إنَّ تشتت جهود التطوير بين أطياف السلطة القضائية حَرَمَ المستفيدين من تطوير شمولي، وجعل خارطة التطوير لا تُوصل إلى الأهداف المتوخاة من المرفق العدلي.
إنَّ السلطة القضائية بحاجةٍ إلى تبني استراتيجية تتضمن خططاً محددة مُسبقاً؛ لتحقيق أهداف مرفق العدالة على مدى لا يقل عن خمسة أعوام في ضوء الإمكانيات المتاحة أو التي يمكن الحصول عليها. وبحكم أن وزارة العدل تحتضن النصيب الأكبر من أعمال السلطة القضائية فقد أُسند إليها تنفيذ مشروع الملك عبدالله لتطوير مرفق القضاء، فقامت الوزارة بالتعاقد مع جامعة الملك فهد للبترول والمعادن؛ لإعداد الخطة الاستراتيجية لتطوير مرفق القضاء، وخطة تشغيلية لمدة خمس سنوات تحت مسمى «عدل»؛ إلا أنَّ تلك الدراسة لم تنعكس عملياً على أعمال السلطة القضائية. كما أنَّ عدداً من تحديات مرفق العدالة لا يزال ينتظر أجوبةً في ميزانية المستقبل، كنقص أعداد السلك القضائي، وأسلوب التأهيل والتدريب، وتشتت اللجان القضائية، وتفعيل محاكم الاستئناف، ومقار المحاكم المستأجرة، والطاقم الإداري المساند، والرقي بالخدمات القضائية، والعدالة الناجزة، واستقرار الأحكام القضائية وجودتها، وغير ذلك من التحديات.
فالتخطيط الاستراتيجي هو طريقةٌ لتحديد الأهداف بعيدة المدى وكيفية الوصول إلى الرؤية المنشودة، وبذلك يختلف عن التخطيط التشغيلي المعني بتفاصيل تنفيذ تلك الطريقة على المدى القصير، في حين يتولى التخطيط المالي «وضع الميزانيات» تغذيةَ التخطيط التشغيلي بالموارد المالية اللازمة لتنفيذها. لذا فإنَّ افتراض الميزانيات على الاحتياجات المعتادة يُعد حلاً مؤقتاً لكنه يحرمُ القطاع من التطوير الشمولي، وبذلك تكون مبادرات التطوير غير قادرةً على تحقيق تطويرٍّ جوهريٍّ يلمسه المستفيد. فالمنظمات تُراجع مسيرة تطويرها في مقابل مدى تحقيقها للأهداف المتوخاة لخدمة المستفيدين، فإن لم تؤدِّ مسيرة التطوير إلى تقدمٍّ ملموس، فتحالُ إلى مختبر التدقيق والمراجعة لإعادة احتساب المسار وتصحيحه. ومن هنا تأتي أهمية مراجعة الإنفاق على القطاع العدلي، فهل رُوعيَّ فيه احتياجات الفرد والأعمال، أم أنَّه وُضِعَ على مستوى الإنفاق الفعلي، وما مقياس عجز موازنة السلطة القضائية والخطط الوقائية لذلك، وماذا عن اقتصاديات العدالة والوسائل البديلة للتقاضي ودورها في تخفيف أعباء القضاء عن الدولة. ففي الولايات المتحدة تُعامل كلُّ ولايةٍ محاكمها ككيانات مستقلة، وتخصص ما يقارب 1% من ميزانية الولاية لأعمال القضاء، وقد استشعرت محاكم كاليفورنيا أن عجزاً مالياً سيلحق بميزانيتها، فقامت بعدة مبادرات لخفض ما يقارب 15 مليون دولار أمريكي دون الإخلال بمجرى العدالة فيها.
إنَّ أسلوب تشغيل مرافق العدالة الحديث يعتمدُ على كثير من التفويض للمحاكم في كل منطقة، بحيث تُدار من قبل هيئة تضم أصحاب المصالح بالمنطقة، وترتبط تلك الهيئات بجهة واحدة معنية بوضع السياسات ومراقبة الأداء، وتحسين الإجراءات؛ لأنَّها تتداخل وتماثل في الإجراءات. فالمحاكم على اختلاف أنواعها، واللجان شبه القضائية على تعددها تتقاسم مَلامحاً عامةً يُمكّنُها من مشاركة تطوير العمل فيها. كما أنَّ نظام إدارة الأداء المرتكز على معايير قابلة للقياس، سيكشف الطريق عن الالتزام أو الانحرافات في تنفيذ التخطيط الاستراتيجي والتشغيلي والمالي. فالحديثُ عن الميزانية العدلية حديثٌ عن أوليات التطوير والتحسين القضائي.
تضمن «برنامج التحول الوطني» أهدافاً تسعى لإطلاق حزمة من الاصلاحات الاقتصادية التنموية، وإزالة للمعوقات الإجرائية والإدارية والمالية، وتحفيز القطاع الخاص، والتوسع في الخصخصة، وتحفيز الاستثمارات، ودعم الاقتصاد، كما تضمن قياس أداء الأجهزة الحكومية من خلال 551 مؤشراً حول 17 مُكوناً أساسياً منها «البيئة العدلية». والملاحظ أن أهداف البرنامج تتقاطع بصورة مباشرة وغير مباشرة مع البيئة العدلية، فإلى أيِّ مدى ستتظافر مختلف أطياف السلطة القضائية في رسم استراتيجية واحدة تخدم القطاعات المستفيدة من خدماتها، وتتضمن خطةَ عملٍ تفصيليةٍ، وميزانياتٍ محددةٍ يُمكن قياس أدائها؛ لتحقيق الريادة والتميز العدلي لعام 2020م؟
الهبوب
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734